الرأي العام

نوافذ الإثنين | مات خياط الكتب

يكتبها: ميخائيل سعد

في عام ١٩٧٠، على ما أظن، اكتشفتُ بالصدفة، بسطةً للكتب على أحد أرصفة حي جورة الشياح، وهو حي لم يكن مطروقا بالنسبة لي سابقاً، إلى أن عشقت فتاة مسلمة كان بيت أهلها قريبا من تلك البسطة، وكنت في ذلك العمر، مهووسا بقراءة الروايات واقتناء الكتب.

كان وقوف شاب غريب في شارع صغير لفترة طويلة يثير انتباه سكان الشارع، فكانت بسطة كتب على الصيف منقذا لعاشق ولهان، لم تكن في ذلك الزمن الهواتف المحمولة معروفة في العالم، ولا وسائل التواصل الاجتماعي التي سهلت تواصل العشاق، ولم يكن هناك بديل عن الانتظار قرب بيت الفتاة أو قرب مكان العمل أو المدرسة، لذلك كنت أمضي الساعات كل يوم متصفحا الكتب ومتحدثا مع صاحب البسطة المعروف ب” أبو شريف“، وعينيّ في الوقت نفسه على باب دار الصبية. وبعد مرور عدة أسابيع أصبحت زبونا مفضلا عند البائع، فبالإضافة لشرائي الكتب، كنت متحدثا ماهرا عن مضمون الكتب التي كنت أشتريها من عنده، ويوما بعد يوم توطدت علاقتنا، فكان يقدم لي كرسيا صغيرا كي أجلس عليه، وأحكي له عن مضمون بعض الكتب، فيوظف ملخصي للكتب لترويج بيعها إلى زبائن آخرين، ولما كانت ميزانيتي لا تسمح لي بالإكثار من الشراء، اتفقت مع أبي شريف أن يعيرني الكتب لقاء أجر زهيد، وكنت سعيدا بهذا الاتفاق.

أحد الأيام سألني أبو شريف مستوضحا: ميخائيل، عندي سؤال أريد الجواب عليه من باب الفضول: أحينا تبقى أكثر من ساعة وأنت تتصفح الكتب، قبل أن تغادر، وأحينا تبقى أقل من ربع ساعة وتغادر مسرعا، ما قصتك أيها الشاب؟

شعرت أنني أصبحت مكشوفا، وهذا أمر خطير، أن يحب شاب مسيحي فتاة مسلمة. قلت للبائع مبررا سلوكي: قد يكون عندي مواعيد، وأنا احترم مواعيدي.

قال أبو شريف: الحب ليس عيبا، ولكن الانتباه واجب.

مع الاستمرار في شراء الكتب أو استعارتها من بسطة أبي شريف، توطدت العلاقة بيننا وحكي لي أنه كان أحد أمهر الخياطين للنساء في حمص، واستمر في عمله هذا سنوات، إلى أن بدأ دخله يتراجع بسبب انتشار محلات بيع الثياب الجيدة، الجاهزة والرخيصة الثمن بالقياس مع الثياب المفصلة حسب الطلب، كما أن عبد اللطيف طليمات (أبو شريف) كان قد بدأ يتعب من الخياطة وحكايا النساء، فقرر هجر مهنته. قال أبو شريف: بعد التفكير الطويل والتردد، قررتُ أن أستفيد من مكتبة البيت التي جمعتها أثناء سنوات العمل بالخياطة، وأجرب بيعها على الرصيف. هكذا بدأت الفكرة، وبدأ عالمي يكبر، فبعد أن كان في البيت محصورا بالنساء وأربعة جدران، اتسع مع بيع الكتاب ليشمل عالم الشارع؛ برجال ونسائه وأطفاله، وأضاف ضاحكا: وعشاق الحي.

خياط الكتب     

تخرجت في دار المعلمين بحمص، وأرسلتني الدولة البعثية إلى جبال عفرين ”لتعريب الأكراد“، عدت إلى حمص بعد سنتين فاقدا حماستي للعروبة البعثية التي أصبحت بعثية أسدية ولفكرة التعريب، ومقتربا أكثر من ”أممية ستالين“ الجورجيي، نسبة إلى جورجيا. كان أول ما فكرت فيه أن أزور بسطة أبي شريف، وحي حبي الأول، لم أعثر على بسطة الكتب، ولا حبيبتي التي عرفت فيما بعد أنها تزوجت رجلا من الخليج.

علمت سريعا أن بسطة كتب جورة الشياح قد شبّت عن الطوق وأصبحت مكتبة، فكانت الرغبة والواجب في السلام على المتحول الكبير (أبو شريف) من عالم الخياطة والنساء والنميمة إلى عام الكتب والثقافة والنفاق.

كان اللقاء مع عبد اللطيف طليمات (أبو شريف) متعة بحد ذاته، فهو الودود، اللطيف، المبتسم، الكريم، المتحدث اللبق، المتفهم لظروف الآخرين، الحريص على انتقاء كلامه كما كان ينتقي القطبة والإبرة والخيط المناسبين لنوعية القماش والفستان ومن ستلبه. كانت مكتبته الكائنة في بناء غير بعيد عن مكان بسطته القديمة، تشبه في ترتيب كتبها وطريقة عرضها وتصنيف موضوعات معرضا للفساتين النسائية التي كان يخيطها. إن مهنة الخياطة وبيع الكتب تتطلبان حسا ابداعيا؛ فالإبداع عن الخياط يتجلى في تصميم الأزياء، وعند بائع الكتب في طريقة ترتيب الكتب واختيار العناوين الجذابة التي تناسب ذوق القراء. كما أن فهم ذوق الجمهور في المهنتين من المسائل الهامة.

كان مكتبة أبي شريف مُخاطة بيد ماهرة واتقان وصبر وتصنيف وذوق، وكأن كل كتاب على الرفوف هو ”قطبة“ في فستان عرسِِ لصبية. لم يكن عبد اللطيف يحمل شهادة، فقد تعلم القراءة والكتابة في طفولته في ”الكتّاب“، ثم طور معارفه ذاتيا، وكما كان ماهرا في الخياطة، أصبح ماهرا في تجارة الكتاب. لقد علمته الحياة والتجربة أن يكون خياطا ماهرا، وذواقة في الألوان واكتشاف النفس البشرية وحاجات زبائنه، مما جعل مكتبته في حمص من المكتبات الهامة والأطول عمرا بين مكتبات المدينة. كان ”الدكان الصغير“ مركز نور وإشعاع ثقافي في مدينة حمص بفضل مهارة صاحبها عبد اللطيف، ففي زمن نادر في ”بلادته ودمويته“ كزمن حكم الأسدين، كان الاستمرار في تجارة الكتاب ونشر المعرفة من الأمور الصعبة، ولكن ابتعاد أبو شريف عن الحديث بالأيدولوجيا ومهارته في قراءة نفسيات البشر، التي اكتسبها من مهنة الخياطة النسائية، قد جعلت المكتبة تعيش طويلا وتأثيرها يستمر بعد موت صاحبها، وتتحول بحكم الاستمرارية الى مدرسة ذات تأثير كبير على أجيال المثقفين الحماصنة.

هكذا تحوّل خياط الثياب إلى خياط الكتب.

عبد اللطيف طليمات ابن حمص الذي قارع ليل الأسدين (العربي القديم)

رحم الله عبد اللطيف طليمات الذي ولد في حمص عام ١٩٢٨، ولا أعرف بالضبط متى مات، ولكن الخبر الذي وصلني من حمص يشير إلى زمن قريب. لقد عاش مع الكتب ما يقارب الخمسين عاما محاولا بصمت ودون المتاجرة بالشعارات، مقارعة ليل الأسدين بشمعته الثقافية التي بقيت مشتعلة طوال حياته.

مونتريال ٢/٩/٢٠٢٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى