أرشيف المجلة الشهرية

مشعل تمّو: تمّو يا مَشـــعل ثورتنا

الرجل الذي أرعب نظام البعث، وفرحت بمقتله الأحزاب الكردية

محمد عبد الستار إبراهيم – العربي القديم

“أود أن أهمس في أذن جميع أحزابنا الكردية: دعوكم من العقل الحزبي، دعوكم من التوظيف الحزبي، دعوكم من الآرمات واللافتات الحزبية”، بهذه الكلمات خاطب الشهيد مشعل تمو المتظاهرين في إحدى الساحات، ومن خلال هذه الكلمات والأفكار، يمكننا فهم عقلية مشعل تمو، وكيف جذب الناس حوله، وأصبح ذا شهرة واسعة في الساحة الكردية، رغم وجود أحزاب كردية تقليدية تاريخية، بعضها من عُمره.

لقد كان مشعل مختلفاً بكل شيء، يمتلك كاريزما في الخطابة والتأثير، يحمل أفكاراً حديثة، ويفهم العقلية الأمنية والمجتمعية. كان فريداً من نوعه بين السياسيين الكرد والسوريين بشكل عام، يخاطب الشارع، كما يفعل أي سياسي غربي في حملاته الانتخابية. مشعل تمو، الرجل الذي أرعب نظام البعث، وفرحت بمقتله الأحزاب الكردية!

فكرهُ وجرأته

مشعل حسين تمّو، ابن ناحية الدرباسية شمال محافظة الحسكة، وُلد عام 1957. كان شاباً طموحاً، درس الهندسة الزراعية، وكأي شاب كردي انخرط سريعاً مع الأحزاب الكردية، وعلى مدار عشرين عاماً مع الأحزاب التقليدية، فهم تمو نقاط القوة والضعف في الحركة السياسية الكردية، ووضع يده على الفجوة بين الشارع والأحزاب. كانت تلك الأحزاب التي لا تتواجد إلا في المناسبات، مثل الأعراس وبيوت العزاء، والتي لا تملك سوى الخطاب التقليدي، والندوات البائسة، والكلمات المتكررة؛ لذلك، توجه مشعل للعمل ضمن المجتمع المدني والمراكز الثقافية، وكان في اتصال مباشر مع الشارع وهمومه ومشاكله ومطالبه.

في عام 2005، أعلن عن تأسيس “تيار المستقبل الكردي في سوريا”، وكان مختلفاً عن أي حزب آخر، من حيث تنظيمه وهيكلته وأفكاره، كان أقرب إلى الفكر الثقافي والعمل المدني، ورغم أن التيار حمل على عاتقه قضية الكرد في سوريا، إلا أنه أكد على أن هذه القضية ليست بمعزل عن هموم الشعب السوري العام، كما جعل القضية الكردية جزءاً من القضية الوطنية السورية، لا شأن لها بالقضية الكردية في باقي الدول.

في عام 2006، اعتصم مشعل تمو، مع مجموعة من المناضلين أمام مجلس الشعب السوري في دمشق، في خطوة لم يجرؤ عليها أي حزب كردي في كل تاريخهم السياسي. كانت هذه المبادرة بمثابة صفعة قوية للسلطة القمعية، حيث تحدى النظام في قلب العاصمة، وتجاوزت المطالب خلال الاعتصام القضية الكردية، حيث دعا إلى إصلاحات تمس جميع السوريين، مع تأكيده على النضال السلمي. وفي عام 2008، اعتُقل مشعل تمو، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات ونصف، بتهم مشابهة لتلك التي تم توجيهها لجميع المعارضين، مثل “إضعاف الشعور القومي، وإثارة النعرات العنصرية، والنيل من هيبة الدولة، ووهن نفسية الأمة”. ونقل عنه بعد الحكم في المحكمة: “معلش، سوريا تستاهل، وهذا ثمن الكلمة الحرة”.

سوريا لكل السوريين

من تابع مسيرة الراحل مشعل تمو في خطاباته وندواته ومظاهراته، لا بد وأنه سمع عبارته الشهيرة: “سوريا لكل السوريين”. لقد كان هذا شعاره، وكان صادقاً في دعوته، حيث لم يبع الأوهام القومية للكرد، كما فعلت وتفعل بعض الأحزاب الكردية حتى الآن. لم يعد بوعود بكردستان الكبرى، أو بإقليم كردي في سوريا، بل كان واقعياً ومنطقياً ووطنياً في طرحه. عندما خرج من سجنه في يونيو 2011، كان يقف في المظاهرات بين المتظاهرين، يرفع صوته بحماسة متوهجة، وهو يؤكد على وحدة الدم السوري، ويخلد ذكرى الشهداء. كان يمتلك كاريزما مميزة، لم يشهدها الشارع الكردي، كان يعلم تماماً متى يرفع صوته في الخطاب ومتى يخفضه، متى يتوقف ومتى يكمل، متى يخاطب غاضباً، ومتى يخاطب هادئاً؛ الأمر الذي جعل أحزاباً كردية تفرح لمقتله.

لأن الشارع الكردي في سوريا كان يفتقد إلى قائد يستطيع أن يعبر عن آلامه وطموحاته، لم يشهد الكرد في سوريا شخصيات سياسية جماهيرية مؤثرة، مثل تلك التي توجد في العراق، مثل مسعود البرزاني، أو في تركيا، مثل عبد الله أوجلان، ورغم تاريخ الأحزاب الكردية الطويل في سوريا، فقد فشلت جميعها في تقديم مثل هذه الشخصيات القيادية المؤثرة.

وهنا برز نجم مشعل تمو، الذي بدأ في ملء هذا الفراغ القيادي. بدأت الجماهير تتجمع حوله وتسانده، وتتابع نشاطه وخطاباته الملهمة والوطنية، فتراه بينهم في الصفوف الأولى، يتشارك معهم آمالهم وأحلامهم.

بينما كانت الأحزاب الكردية التقليدية مترددة في الانضمام إلى الثورة التي كانت تجتاح الشارع الكردي، وكانت تخشى على مصالحها وعلاقاتها مع المخابرات السورية، عاد مشعل تمو إلى الساحة السياسية، ليحمل مشعل الثورة فور إطلاق سراحه، دون أي تردد. ومن تحت الخيمة التي نُصبت لاستقبال المهنئين، أيد الثورة السورية بشكل فوري، قائلاً: “قد يكون الشكر الأكبر في الحرية التي نلتها، وبعض رفاقي هي تعود لدم الشهداء، دم السوريين من درعا حتى المالكية. نفخر بكل شهيد، ونتأسف في نفس الوقت، ونقول بئس نظامٌ يقتل شعبه. نعم هي الحرية، نعم هي إرادة الحرية، إرادة الشعب، إرادة الصابرين، إرادة الطامحين، إرادة بناة المستقبل، إرادة صنع التاريخ، التاريخ المعاصر لسوريا الحديثة، سوريا المدنية، وسوريا لكل السوريين”.

لقد هاجم تمو في نفس السياق الأحزاب الكردية التي كانت تتودد للنظام السوري في تلك الفترة، وقال بمرارة: “يؤسفني جداً أن يفكر البعض منا ككرد بتاريخهم، بعراقتهم، أن يفكروا ولو للحظة أن يمدوا يدهم لنظام يقتل بالرصاص الحي والمدافع شعبه. يؤلمني أن يكون هناك من بين شعبي من يمد يده إلى طغاة وقتلة”. هذه الكلمات جعلت منه رمزاً للثوار، ليس فقط في الشارع الكردي، بل في عموم سوريا؛ لأنه أصبح يتواجد معهم في كل مظاهرة رغم كل المخاطر الأمنية التي كانت تهدد حياته. وفي الوقت الذي غابت فيه جميع الأحزاب عن المظاهرات، كانت هناك مقولة ترددها الأحزاب الكردية عن المتظاهرين، ويعرفها كل كردي: “هؤلاء زعران مشعل تمو”، ولمن لا يعرف، فإن هؤلاء اليوم هم من يشاركون في المعارضة السياسية، ويطالبون بتمثيل لهم في سوريا الجديدة.

تدبير مؤامرة اغتياله

لقد كان النظام السابق يسعى إلى خطاب مشابه لخطاب الأحزاب التقليدية، يعتمد على بيع الوهم والكذب على الجماهير، وتخديرهم، وتقديم خطاب عاطفي لا يمت للواقع بصلة. كان هذا الخطاب يبعث على تفريق الشارع الكردي، ويجعلهم في سبات مغناطيسي، بدلاً من خطاب وطني جامع، يحفزهم ويشعل فيهم الحماسة. وفي الوقت الذي كان فيه تمو، يزعج ذلك النظام المجرم، ويقض مضاجعه، كان يسبب أيضاً قلقاً للأحزاب التقليدية.

لقد أرعب تمو النظام السابق في خطاباته وأفعاله، وفي 7 تشرين الأول 2011، طالته يد الغدر الآثمة، ليُقتل على يد مسلحين مجهولين، بعد محاولة اغتيال سابقة. اتهم كثيرون النظام السوري بالوقوف خلف اغتياله، بل يعتقد بعضهم أن حزباً كردياً – يحكم بأمر الواقع- هو من نفذ له هذه الجريمة. لم يتمكن القاتلون من إخماد شعلة تمو، وفي جنازته خرج مئات الآلاف في مشهد مهيب، مما أكد مكانته في الشارع الكردي والسوري، وليعرف الآخرون حجمهم الحقيقي.

“نحن نموت لنصنع الحياة، لا نخاف الموت، بل نعشق الحياة؛ لذلك عندما نهديها دمنا، فنحن نزرعها ونصنعها لأجيالنا القادمة ولأحفادنا، بعيداً عن الظلم والاضطهاد والقمع والاستبداد والاستغلال والطغيان”- مشعل تمو.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى