العربي الآن

هل تفتح موسكو باب العدالة الانتقالية في سوريا؟

قراءة تحليلية في لقاء أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي بعد سقوط نظام الأسد

بلال الخلف – العربي القديم

لم يكن اللقاء الذي جمع أحمد الشرع، بنائب وزير الخارجية الروسي، مجرد اجتماع دبلوماسي عادي في مرحلة ما بعد سقوط النظام الوحشي. الصورة التي جمعت الطرفين كانت كفيلة بإثارة تساؤلات عميقة وغصب كبير  في الشارع السوري الذي خبر جيدًا ماذا يعني أن تمد موسكو يدها “للتعاون” بعد أن كانت اليد ذاتها هي التي بطشت ودمرت وقتلت لعقدين من الزمن.

لكن ما الذي يدفع روسيا اليوم إلى تغيير لهجتها؟ وما دلالات الحديث عن “احترام سيادة سوريا”، و”دفع التعويضات”، و-الأكثر إثارة للدهشة – “العدالة الانتقالية”؟

موسكو بين الواقع الجديد والبحث عن مخرج

منذ أن تدخلت روسيا بشكل مباشر في سوريا عام 2015، كانت تعتبر نفسها المنتصر المطلق، وأن الكلمة الفصل في مستقبل سوريا تعود لها وحدها. حوّلت البلاد إلى ساحة نفوذ عسكري مفتوح، دعمت النظام المجرم حتى آخر رمق، قصفت المدن، استخدمت الفيتو لدفن كل محاولة للمحاسبة، بل وحتى تعاملت مع القضية السورية كملف تفاوضي للمقايضة على مصالحها الدولية.

لكن المشهد تغير اليوم. النظام سقط، وحليفها الذي استثمرت فيه سياسيًا وعسكريًا أصبح من الماضي، والوجود الروسي في سوريا لم يعد ذا جدوى استراتيجية كما كان في السابق. موسكو باتت تدرك أنها أمام واقع جديد، وأن إعادة التموضع باتت ضرورة سياسية لا خيارًا. تمامًا كما فعلت في أفغانستان حين انسحبت من كابول في التسعينيات بعد عقد من الاحتلال الفاشل، وتمامًا كما فعلت لاحقًا في أوكرانيا حين اضطرت إلى التخلي عن بعض مكاسبها العسكرية نتيجة الضغوط الدولية والتغيرات على الأرض.

إلغاء امتيازات روسيا: خطوة أولى نحو تحجيم نفوذها؟

قبل أسبوع، تم الإعلان عن إلغاء عقد تشغيل ميناء طرطوس، وهو أحد أهم الامتيازات الاقتصادية التي كانت موسكو قد حصلت عليها من النظام السابق. واليوم، تتردد الأحاديث عن إغلاق القواعد العسكرية الروسية في سوريا، وهي خطوة ستكون ضربة قاصمة لنفوذ موسكو في المنطقة.

ما يجري اليوم يعكس تحولًا حقيقيًا في ميزان القوى، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات: هل تبحث موسكو عن مخرج آمن يحفظ لها مصالحها المتبقية، أم أنها تحاول فرض شروطها على أي مرحلة انتقالية قادمة؟

العدالة الانتقالية: مناورة سياسية أم استعداد لتسليم القتلة؟

ربما تكون أكثر نقطة مثيرة للدهشة في البيان الصادر بعد الاجتماع هي الحديث عن “العدالة الانتقالية”. فكيف لدولة كانت حتى الأمس القريب توفر الحماية للمجرمين أن تطرح فجأة ملفًا كهذا؟

لكن لنعد قليلًا إلى الوراء. روسيا ليست غريبة عن لعبة المقايضات السياسية، وقد استخدمت ورقة “محاكمة القتلة” سابقًا في صراعات أخرى، سواء في البلقان أو في الشيشان، لتعيد تموضعها دوليًا وتظهر بمظهر القوة التي تملك مفاتيح الحلول.

اليوم، على أراضيها، يعيش كبار قادة الحرب السوريين، من ضباط المخابرات السابقين إلى شخصيات بارزة في النظام المنهار، وربما تجد موسكو فيهم ورقة مساومة يمكنها استخدامها لتخفيف الضغوط الدولية عنها أو لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي. السؤال هنا: هل هذه مجرد مناورة لكسب الوقت، أم أن روسيا جادة فعلًا في فتح هذا الملف؟

ما بين روسيا والغرب: هل نحن أمام لعبة توازنات؟

على مدار العقود الماضية، كان الغرب دائماً يحاول استغلال أي فراغ سياسي تتركه روسيا في أي منطقة نفوذ. لو أن موسكو انسحبت بشكل كامل من سوريا بعد سقوط النظام، فمن المؤكد أن العواصم الغربية ستسارع إلى فرض شروطها الخاصة، وستحاول تشكيل مستقبل البلاد وفقًا لمصالحها لا وفقًا لما يريده السوريون.

لكن هذا لا يعني أن روسيا يجب أن تكون شريكاً موثوقاً، فالسوريون يعرفون جيداً أن موسكو ليست سوى قوة استعمارية أخرى، وأن كل ما تبحث عنه هو تأمين مصالحها، سواء عبر القواعد العسكرية أو عبر صفقات إعادة الإعمار.

ما الذي يريده السوريون فعلًا؟

ما يريده الشعب السوري ليس تفاهمات سياسية غامضة، ولا بيانات مبهمة تتحدث عن “الاحترام” و”التعاون”. المطلوب واضح:

• إغلاق القواعد العسكرية الروسية وإنهاء أي وجود استعماري في البلاد.

• تسليم مجرمي الحرب لمحاكمات عادلة، سواء كانوا في الداخل أو فرّوا إلى روسيا.

• دفع التعويضات للشعب السوري على الدمار الذي تسببت به الطائرات الروسية والمدفعية التي سوت مدننا بالأرض.

• استقلال القرار السوري بعيدًا عن ابتزاز موسكو أو ضغوط الغرب.

إذا كان هذا اللقاء سيفضي إلى خطوات ملموسة تحقق هذه المطالب، فمرحبًا به. أما إن كان مجرد جولة جديدة من الأكاذيب الروسية، فالسوريون يعرفون جيدًا كيف يميزون بين الحقيقة والخداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى