الرأي العام

مقامات أمريكية | عن الكليشيهات السورية

الكليشيهات لم تصبح متداولة وشائعة سوى لأنها تعابير قوية البنيان، استطاعت تلخيص التعبير القوي بجزيل من الكلمات

د. حسام عتال – العربي القديم

 في كتابي (الرواية الحديثة) ذكرت أن الاستخدام المتكرر للعبارات المألوفة أو المأثورة – الكليشيه cliché)) ـ في الكتابة يظهر ضعفاً في التفكير الإبداعي عند الكاتب، بسبب اعتماده على مقولات معلّبة جاهزة بدلاً من استحضار رؤى فريدة أو صوراً مبتكرة إلى النص. فعندما يقرأ أحدنا جملاً مثل “الهدوء قبل العاصفة” أو”التغريد خارج السرب” أو “اختلاط الحابل بالنابل” أو “أتى على الأخضر واليابس”، نجدها عبارات كسولة باهتة تنقصها الأصالة والحيوية، ونشعر بأن تفكيرنا قد تجمّد فجأة وأن مخيلتنا قد تقلصت، ثم نتساءل: ألم يتيسر للكاتب تعبيراً أكثر نشاطاً وأشد حيوية؟

لكن الحقيقة أن الكليشيهات لم تصبح متداولة وشائعة سوى لأنها تعابير قوية البنيان، استطاعت تلخيص التعبير القوي بجزيل من الكلمات، فاستحقت ذكرها في كل وقت، وعلى كل لسان؛ لهذا، عندما بحث عن أصولها، ليس غريباً أننا نجد أن معظمها قد أتى من كتّاب عِظام.

لنأخذ بعض ما كتب شكسبير كأمثلة: neither here nor there; all the glitter is not gold; in my heart of hearts; too much of a good thing; break the ice; naked truth; full circle; lie low; dead as a door nail.  هذه أقوال يستخدمها الناس المتكلمين بالإنكليزية يومياً، ومعظمهم يفعل ذلك دون أن يعرفوا أصلها، أو كيف وَجَدتْ طريقها لتصبح جزءاً من لغتهم اليومية. 

بالمقارنة، في لغتنا العربية نجد أن شاعرنا المتنبي قد فاق نظيره الإنكليزي شكسبير، وزاد عليه بأنه تنبأ سلفاً بأن ما يقوله سيكون درة كل لسان، عندما أعلن:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي – إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً.

وبالفعل فمقولات له مثل “رب ضارة نافعة” و “بضدها تتبين الأشياء” و “إذا أتتك مذمتي من ناقص” و “نقل فؤادك حيث شئت من الهوى” و “ما كل مايتمناه المرء يدركه” و “مصائب قوم عند قوم فوائد” و “إذا أنت أكرمت الكريم ملكته” و “لا بقومي شرفت بل شرّفوا بي” و “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم” هي من مسرى الكلام تتناولها أفواه الناس في كل موضع حتى يومنا هذا.

وقلة هم الكتّاب الذين أدركوا هذه المعضلة الغريبة في ثنائية جدلية: جزالة وفصاحة هذه الكليشيهات وقوتها التعبيرية من جهة، والدعة والركود في استخدامها السهل المتكرر من جهة أخرى.

بعض الكتّاب الذين فعلوا ذلك حاولوا الخروج من هذا المأزق بالتلاعب بذكاء لاستغلال قوة الكليشيهات، فقلبوا العبارة المأثورة “رأساً على عقب” كما فعل تشارلز ديكنز في بداية رواية   (أغنية عيد الميلاد) عندما وضع عبارة شكسبير “ميت كالمسمار الصلب في الكفن” في الفقرة الأولى من قصته (بهذا مثيراً احتجاج القارئ)، كي يفاجئه في المقطع التالي عندما قلب مفهوم العبارة ببراعة عندما قال “ربما كنت لا أميل، بنفسي، إلى اعتبار مسمار التابوت أكثر قطع الحديد موتاً في حرفة التوابيت. لكن كان لأسلافنا حكمة في التشبيه؛ ولن أحاول بلبلة هذه الحكم المقدسة، وإلا انتهت البلاد إلى أمر غير محمود.” عظمة على عظمة يا ديكنز، نقول له (إن أردنا استخدام كليشيه) لوصف خداعه لنا بتوظيفه الكليشيه بهذه الطريقة.

ولنأخذ مثالاً آخر من الكاتب المسرحي آرثر ميللر: هناك لحظة مؤثرة في مسرحية ‘موت بائع متجول’ يقول فيها ويلي لومان: “A man is not a piece of fruit”. هذه العبارة مستعارة من فكرة شائعة أن الناس العاديون يُستخْدَمون، من المتنفذين، ثم يُرمَون بعد غياب الحاجة لهم، باستخدام كليشيهات مثل  “Squeezed dry”  أو  “Tossed aside”. لكن ميللريحّول ما كان يبدو مبتذلًا في تلك الأوصاف إلى لحظة صادقة باستخدام تعبير حميمي مؤثر، يوحي بتلك الأوصاف، لكنه يجعلنا نتفاعل مع حياة شخصية ويلي البائسة التي عصرها نظام رأس المال حتى وصلت لحد الانهيار.

هذه المقدمة الطويلة تقودنا إلى موضوع المقالة، وهو الكليشيهات التي تكاثرت على الأفواه وفي الكتابات بعد تحرير سوريا. فنحن لا نكاد نتكلم، أو نقرأ سطرين من أحدهم دون أن نتعثر بها: “خمسون عاماً من حكم عائلة الأسد القمعي”، ” تخريب البلد الممنهج لأكثر من نصف قرن”، “الفساد الذي استشرى وتعمّق في بنية المجتمع”، “الفلول الفلول الفلول…” وغيرها. 

وتملأ هذه العبارات السطور رغم أن الموضوع المتطرق إليه قد يكون مجرد عيد ميلاد طفل عمره سنتين ، أو وصف لقاء صديق في المقهى بعد غياب، أو دراسة عن تأثير المناخ على هجرة الطيور؛ ولكن الكاتب، بطريقة او أخرى، يجد طريقة لإقحام إحدى تلك الكليشيهات فيه، وكأنه قد استحوذه هوس لا يستطيع منه فكاكاً. والاستخدام لم يعد حكراً على معارضي حكم الأسد ومن عانوا من جوره (والذين ربما نستطيع أن نغفر لهم عُصابهم)، بل امتد ليشمل ما يسمى بالمكوعين، وهم من كانوا إما من الموالين أو الحياديين تجاه حكم الأسد، ونستعجب: ما بال هؤلاء؟ ومتى تطور عندهم هذا الفن في التعبير محققين هدفين: واحد شبه أدبي، وثاني كأنه شئ من تقديم الأوراق الثبوتية في مقام إدانة الشر ومناصرة الحق.

وكما في بقية الأحوال فإن استخدام هذه الكليشيهات يبقى إشكالياً لأنه يميّع النص، ويضعف الصيغة، ويسّطح الفكرة من جهة؛ لكنه يبقى، من جهة أخرى، نافذ الأثر، لأنه يضرب بدقة على وتر الحقيقة، ويحدّق مباشرة في عين الصواب.

فإن أردنا الحفاظ على مصداقية مع القارئ (الذي بات يصطدم بتلك الكليشيهات في كل اتجاه وبأي مناسبة) دون أن نخسر تعاطفه، أو الأسوأ أن يظن بنا أننا قد أمسينا مطبلين ومزمرين للعهد الجديد، كما كان موالوا العهد البائد، لا سمح الله، فمن الأجدى بنا أن نتعلم شيئاً من كبار الأدباء في تعاطيهم مع هذا الأمر. وهكذا يمكن لنا تقليد ديكنز في توظيف الكليشيه بقلب صيغتها عاليها سافلها، فبدلاً من الترديد الممل أن “حكم الأسد قد خرّب و فكك المجتمع السوري”، يمكن لنا في هذا الشأن القول “كيف أن الشعب السوري قد صمد وانتصر رغم كل محاولات التخريب”. وبدلاً من التشديد على “خمسون عاماً من القهر والذل والإجرام” أن نحتفل “بالأسبوع الذي شدت به أعصابنا ونحن نراقب تداعي النظام كأنه بناء من ورق الشدّة”.  أو يمكن أن نلتمس المنحى الذي اختاره ميللر رفع الرهانات، وتقوية العواطف المرافقة للنص، فعوضاً عن التكرار البليد أن “الفساد استشرى في مفاصل الدولة” يمكن لنا أن نغمز بعين الساخر، مشيرين إلى حالة غريبة لا سابقة لها في تاريخ الدول، فنعلن “كيف توقف تداول الرشوة بين ليلة وضحاها!” بهذا الشكل نكون قد تفادينا مطبّ الكليشيهات الهزيلة، وبنفس الوقت نكون قد أعطينا شعبنا السوري حقّه بتعبير أدبي يليق بإنجازه العظيم. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى