المذكرات المتلفزة: أمين الحافظ شاهداً على عصر لم يصنعه!
مصعب الجندي – العربي القديم
أدب المذكرات: لا شك أنه ملف سيفتح الكثير من السجال، وأنا على كسلي أساهم فيه بتواضع، فقد كان بودي الحديث عن المذكرات الأهم لشخصيات سورية، من مشارب مختلفة كمذكرات خالد العظم، أو أكرم الحوراني، أو الشيخ علي طنطاوي، أو الشاعر أحمد الجندي، أو مطيع السمان، وغيرهم ممن أعتبر أنهم حاولوا توضيح صورة سوريا (المجتمع والدولة)، والصراعات التي دارت فيها، وكيف تشكّلت، (أو ما زالت في طور التشكل)، وهو أمر لكي يكون دقيقاً يتطلب مني العودة إليها، وهي كتب فقدتها مع ما فقدت في مستودع دار النشر، عدا عن اعتراف بسيط، هو أنني عندما قرأتها، كنت أحياناً أشعر بالملل والتثاؤب لأسباب عدّة، ولا رغبة لي بلحظة ملل أخرى، فيكفيني ما يمنحني إياه حضن هذا الوطن!
أهرب من كلمة أدب، وأكتفي بالمذكرات؛ كي لا أغرق بمجال النقد الأدبي الذي لا أبرع فيه مطلقاً، فمع كلمة مذكرات أول ما يطرق في البال السياسيون؛ لأننا سوريون أبناء وطن الغموض والأسى والنفاق والشقاق، صفات على سوداويتها استقيتها من المذكرات نفسها، فأغلبها كانت دفاعاً مبطناً عن النفس، واتهاماً للآخرين كمذكرات الأستاذ أكرم الحوراني، الذي لم يترك أحداً ممن عاصروه إلا ووجد له صفة سلبية ما، أو تهمة باستثنائه هو نفسه، متناسياً أنه كان لاعباً رئيسياً جداً في مرحلته! ويبدو أنه أمرٌ، حاول تغييبه بإغراق القارئ بتفاصيل، قد تبدو للوهلة الأولى مهمة، لا اتهام له، فهو كان مخلصاً جداً لأفكاره، ومخلصاً جداً لنفسه وذاته، ونزعة السلطة لديه.
الرأي في المذكرات يختلف بين قارئ وآخر؛ لأنها تؤدي لتناحر مواقف لا معنى لها، خصوصاً إذا كان القارئ من المتشبثين بالصورة النمطية المسبقة، ولم يُخضع ما قرأه لأي تحليل (شروط موضوعية في زمانها ومكانها)، لا أنفي أن الحدث الماضي، دفع باتجاه الحاضر بسوء نية أو بدونها، لكنه ماضي (تاريخ ضمن حركته)، ولن يبدل في مسار الحدث في شيء، والأصل أن نتعلم منه لأجل المستقبل، لا أن نتمسّك ب (منذ)، فمنذ كلمة ذات دلالات زمانية، قد تحدد عند بعضهم فصلاً (قطعاً) بين مرحلتين. بالنسبة لي (وإن تفلسفت) أرى منذ هذه (منذ المبهمة): منذ حادث كذا… منذ ضاق الوقت… منذ أصبح السهو واللهو واللغط عادات… تركت “المبهمة” بلا تشكيل، ليس للبحث في إعجازات اللغة العربية؛ وإنما لتترك للقارئ مع حرية الاختيار، فالـ “منذ” اللئيمة هذه في دلالاتها الزمانية، قد ترتبط بـ”المُبْهَمة”، أي غير الواضحة أو الضبابية، وقد ترتبط ب”المُبْهِمة” من البهائمية (البهيمة ضمن قطيع وليس خارجه)، فرغم اختلاف المعنيَين، لكنْ كلاهما يصبّان في سياقنا الزماني نفسه، ويا ويلنا، حين تمترست حياتنا وأفكارنا ب الـ “منذُ” بنوعيها، ويا خشيتي، أن تكون الـ”منذُ” مصيبة السجال في هذا الملف!
تختلف المذكرات بين كاتب أو راوٍ لها وآخر، التي هي من المفترض أن تكون بوحاً للأسرار الحمراء والسوداء وبعض الحماقات، وما يُثقل القلوب التي أثقلها الإخفاء. بوحٌ صادق ليطلق صاحب السرّ عنان أعماقه، ويتخلص من إثمه، لا أن يكتفي بسرد آثام الآخرين، المذكرات بوح ليصبح الإنسان حراً، هذه الصيغة افتقدتها عند (أغلب)، متجنباً أن أقول جميع السياسيين الذين قرأت مذكراتهم، كم كنت أتمنى لو أن أحدهم كان كالشهيد صلاح الدين البيطار، الذي عندما أراد أن يكتب مذكراته بمجلة الإحياء العربي، بدأها بـ(رسالة اعتذار للشعب السوري)؛ لأنه وطن وشعب يستحقان الاعتذار.
ذكرت: تختلف المذكرات بين كاتب وراوٍ لها، والأخيرة درجت كموضة مع الفضائيات، وهنا يُضاف إلى الراوي السّائل أو المذيع، الذي قد يمنح الرواية جمالية، ويعطي للمشاهد عطراً ومحبة وسلاماً، مع قدرة على إظهار الحقائق الهامة في تاريخ الراوي، أو أن يكون مستفزاً، لديه فكرة وبرنامج مسبقان، وليس معنياً برواية الراوي. حالة لا تغيب عن بالي اللقاء الذي أجراه المذيع أحمد منصور عام 2001 بمحطة الجزيرة مع الفريق محمد أمين الحافظ، وهنا أنا لا أدافع عن الفريق؛ لأني أعرف جيداً أنه لم يكن يصلح أن يكون أكثر من (شيخ عشيرة)، وليس رئيس جمهورية، لكن خبث اللجنة العسكرية أرادته في هذا الموقع لمرحلة ما. كان الفريق أمين الحافظ، حين اللقاء قد تجاوز الثمانين، ولم يعد يملك قدرة كافية للجدال، وبدا كجندي بغير سلاح!
كان أحمد منصور يسأله، وغالباً عندما يبدأ الحافظ الجواب، يقاطعه ويرفق ذلك بضحكة ساخرة، وعندما وصل الحديث إلى كوهين، تشعر أن المذيع دفع باتجاه أن يلبس الحافظ التهمة، رغم معرفة المذيع المُسبقة أن كوهين، ليس أكثر من جاسوس تافه، أرادت إسرائيل أن تصنع منه أسطورة، ويكفي الحافظ فخراً البرقية التي أرسلها كوهين لإسرائيل، قبل إلقاء القبض عليه (لا أنصح بشن هجوم على سوريا)، وعندما سأله اللواء صلاح الضلّلي عن البرقية، أجابه: (لأن رئيسكم قد يقاتل حتى آخر قطرة دم، وقد يكبدنا خسائر نحن في غنى عنها الآن)، ومع الحديث عن أحداث حماة (نيسان 1964) لم يعرف أمين الحافظ الدفاع عن نفسه، وللتوضيح هنا هو حمّل مسؤوليتها في حينها (كشيخ عشيرة)، وأيضاً في حوار (الشاهد على العصر)، بينما نجا مفتعلوها والدافعون باتجاه العنف فيها، وهم اللجنة العسكرية التي يمثلها في حماة اللص والسارق (عبدالحليم خدام)، الذي كان أميناً لفرع الحزب حينها، واستفز أبناء المدينة بعدوانيته وقذارته، وعندما أدرج اقتراح قرار للقيادتين القطرية والقومية، ومجلس قيادة الثورة بضرورة فتح تحقيق، عدا عن محاكمته أسقطت اللجنة العسكرية القرار بمنتهى السهولة، ولم يصوّت معه إلا صاحبه، وعضو كان باللجنة العسكرية، ومدني واحد. إسقاط القرار لم يكن فقط حماية للجناة، وإنما أيضاً لإسقاط مفهوم المحاسبة، وتحمّل المسؤوليات، ليصبح يقين الآثمين أنهم لا يُحاسَبون، ومن يفكر بغير ذلك سيُرحّل. كان بودي الحديث أكثر عن هذا الحوار (المذكرات)، لكني خشيت أن يصبح حديثاً مملّاً.
ماذا لو قيل لي: اكتبْ مذكراتك: (من لم يخطئ منكم)، هذه الجملة هي التبرير الوحيد عن نفسي في مرحلة السواد والعتم. أحاكم نفسي، وأكون المتهم والقاضي والجلّاد، وأحكم الحكم. وما العمل لتجنب سجال مليء بالكآبة التهميشية، نصيحة: اذكرْ ما عليك بصدق، ولا تجادل فكل ما هو ماضٍ، وإن كان سجاله وأثره حاضراً، لكنه سريع الذوبان…… السياسة في بلادنا منقوصة الأخلاق، (إن لم تكن خالية عند بعضهم) منذ بدء ممارستها، فالساسة يبيعون، ويشترون ويسمسرون المواقف، وإذا أردت أن تعرف النزيه من غيره، ودرجة نزاهته، فانظر إلى حجم خساراته، وقارنها مع (الكسّيبة) رغم وجود مآسٍ، وبلاد تُنهَب.
أما عن مرحلة المخاض والبياض 15/3/2011، فلن يكون لي مذكرات عن الأشرار الذين عرفتهم، أو الانتهازيين المتسلقين على تضحيات الآخرين وتناسوا… لن أذكر المنافقين والجبناء. فقط أتحدث عن الشجعان والمعطائين…. في لحظات المخاض القاسية أبتسم؛ لأن التاريخ والناس، يجب أن ينسينا السفلة؛ لأنهم جزء، (بصورة أو أخرى) من حقبة السواد والعتم.
___________________________________
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024