أرشيف المجلة الشهرية

أدب المذكرات والسير الذاتية بعد الثورة السورية

د. محمد طه العثمان – العربي القديم

أدب المذكرات هو نوع من الأدب الذي يركز على كتابة ذكريات شخصية أو سيرة ذاتية لفترة من حياة الكاتب وعلى الرغم من قلة هذا النوع  من الكتابة في عالمنا العربي مقارنةً بالأجناس الأخرى، إلا أنه في السنوات الأخيرة صارت المذكرات والسير الذاتية تأخذ حيزًا واسعًا من اهتمام الناس، سواء كانوا شخصيات مهمة ومعروفة أو شخصيات عادية. لكن المدقق في هذا النوع من الكتابة يعرف أنه ليس وليد هذا العصر، بل هو قديم. كانت تستخدم المذكرات لتوثيق الأحداث التاريخية أو السير الذاتية للشخصيات البارزة. ومع مرور الزمن، أصبحت المذكرات أكثر شمولًا، ويكتبها الأشخاص العاديون أيضًا لتسليط الضوء على تجاربهم الشخصية والعاطفية والفكرية. ومن أبرز المذكرات لشخصيات سياسية عالمية كتاب “كفاحي” لهتلر، ومذكرات ميخائيل غورباتشوف في كتاب “من الحياة”، ومذكرات نيلسون مانديلا في كتاب “مسيرة طويلة نحو الحرية”. وفي أدبنا العربي قرأنا مذكرات طه حسين، ولويس عوض، وعمرو موسى، وجبرا إبراهيم جبرا، والجواهري، ومحمد نجيب وغيرهم.

برأيي، المذكرات لا تشبه السيرة الذاتية ولا السيرة الروائية، حيث يكون فيها الكاتب جزءًا من المؤثرات الخارجية من الحياة الفكرية أو السياسية، يتفاعل معها ويكون شاهدًا على تلك الأحداث. أما السيرة الذاتية فهي تخص حياة الكاتب الشخصية ضمن المؤثرات الداخلية، والأحداث الخاصة التي عايشها وكيف تفاعل مع المؤثرات الخارجية من خلالها.

 بعد الربيع العربي والآمال التي عاشها الإنسان والمثقف العربي، ومن ثم اتساع آفاق الحرية في الكتابة والتعبير وكسر الحواجز النفسية والخوف من السلطات القمعية، نما هذا الجنس الكتابي بشكل كبير. صرنا نشاهد الكثير من المذكرات والسير الروائية لكتاب عرب عامة وسوريين خصوصاً. فقد كتب السوريون الكثير من هذه السير على شكل سيرة روائية، وخصوصاً عن المعتقلات السورية. فمن منا لم يقرأ “القوقعة”، وقبل ذلك بسنوات كانت شهادة هبة الدباغ في كتابها “خمس دقائق وحسب”، في بداية الثورة السورية كانت السير قليلة، لكن بعد عدة سنوات، وحينما خرج كثير من السوريين مرغمين من بلادهم، صارت إمكانية الكتابة حاضرة، فصدرت العشرات من هذه الكتب. ومن حظي وحظ دار موزاييك أنها استأثرت بالكثير من هذه المذكرات والسير. وسأقف على أهمها بإيجاز:

الكتاب الأول: (الشراقة) لسعاد قطناني

صدر عن دار موزاييك عام 2021: يحتوي الكتاب على شهادة عدد كبير من المعتقلين :كمصطفى خليفة صاحب رواية القوقعة، وفدوى محمود، وعمر الشغري.

واللافت في الكتاب أنه يكمل الشهادات التي قدمتها هذه الضحايا في برنامج “يا حرية” الذي عُرض على تلفزيون سوريا. وقد قامت الكاتبة بإعداده وإنتاجه؛ لذلك تقول عن هذا الكتاب: “هذه الحكايات ليست حكاية سجن وسجان فقط، بل حكاية سوريا بناسها وأحلامهم وآمالهم ومخاوفهم، حكايات أوجاع امتدت على مدى خمسين عامًا وأكثر. في هذا الكتاب سمعت اللقاء وأعدت كتابته ثم أعدت صياغته، لم أفرغ النص بل فرغت الكثير من وجع روحي لتصير كلمات على سطح الورق، ولتصير الأجوبة سرداً متواصلاً، لتصير حكاية وألماً وجرحاً ينفتح على أسئلة ليس لها جواب. حافظت على روح أصحاب الشهادات وروح النص الأصلي، واستخدمت العبارات ذاتها التي جاءت على لسان أصحابها مقاربة صنعة السرد الروائية مع الأمانة في نقل هذه الشهادات.”

الكتاب الثاني: (اليوم التالي) لمحمد جلال

صدر عن موزاييك عام 2020، وهو الجزء الثاني لكتاب “هذه ثورتي”، الذي كان عبارة عن شهادة على الوضع السوري في بداية الثورة، ومذكرات الكاتب عن معايشته لبدايات قيام الثورة، والانتهاكات التي طالت المتظاهرين والمحتجين من قبل قوات النظام. لكن في كتاب “اليوم التالي” ربما نرى أول شهادة عما حصل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إذ يغوص في الحديث عن تفاصيل الحياة في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام أو من خلال رحلة نزوح قليلة إلى تركيا. المدة التي شملها الكتاب كانت بين عام 2014 حتى بداية عام 2020.

يكتسب الكتاب أهميته من كونه كتاباً يحكي بضمير سوري جامع عن مشاهدات ومعاينات الكاتب من قلب الحدث، حيث عمل وما زال يعمل مع منظمات إغاثية كثيرة دون الانحياز لطرف. يروي كل التفاصيل الخفية التي عايشها الإنسان السوري المسحوق أثناء تلك الفترة، خصوصًا بعد تغوّل جبهة النصرة وابتلاعها للثورة إلى أطماع بي كي كي وقسد، حيث يدخلنا إلى تفاصيل التفاصيل.

 الكتاب الثالث:(عن وجع لا يُرى) لريمان عاشور

 صدر عن موزاييك عام 2020. وهو سيرة روائية تحكي حياة الكاتبة والأحداث التي عاصرتها منذ بداية الثورة في سوريا حين كانت مدرسة في جامعة حلب، ثم الحديث عن تنقلاتها مع زوجها الليبيّ الجنسية وعملها في السياسة؛ من حياتها في ليبيا قبل وأثناء انطلاقة الثورة الليبية، مرورًا بحياتها في الكويت لدى تعيين زوجها سفيرًا لليبيا هناك، وعلاقاتها بالشخصيات السياسية وكواليس العمل السياسي، وصولًا إلى استقرارها في إسطنبول. بأسلوب سردي شيق، ووصف متميز للأماكن والعادات في البلدان التي عاشت فيها.

الكتاب الرابع (سجن صيدنايا، الإضراب الكبير) لفراس سعد

 صدر عن موزاييك 2022. وقد تضمن الكتاب مجموعة من المواضيع القريبة من السرد الروائي، تتناول سيرة ويوميات وأحداثًا حقيقية موثقة بأسلوب يتراوح بين الأدبي والتقريري. الكتاب مليء بالشهادات الشخصية عن حوادث وأشخاص وتفاصيل عايشها الكاتب. فهو أقرب لوثيقة دقيقة لانتهاكات النظام للمعتقلين لسنوات، ويركز على ما حصل أثناء استعصاء سجن صيدنايا السيّئ الصيت، حيث يقدم فيها الكاتب شهادته على تلك الانتهاكات التي مست حتى أبناء الطائفة التي ينتمي إليها رأس النظام ومنهم الكاتب.

الكتاب الخامس: رواية (الوشم) للروائية السورية منهل السراج

 صدر عن موزاييك 2022. وقد تناولت الكاتبة في روايتها يوميات المعتقلة السابقة “لولا الآغا” في قالب سردي محكم، مملوء بالأحداث الحقيقية لشخوص وأماكن حقيقية، مما يجعل العمل أقرب إلى السيرة الروائية. تسرد فيها تفاصيل اللحظات التي عاشتها مع ثورة السوريين في مدينة حلب، وعن أسرتها، وعن السنوات التي قضتها في معتقلات نظام الأسد.

الكتاب السادس:  (دولة العبث) لفواز العلو

 صدر عن موزاييك عام 2022. يسرد الكاتب في هذا الكتاب مذكراته عن بعض من تاريخ سوريا والتقلبات السياسية والاجتماعية والدينية التي مرت بها البلاد منذ عام 1975، ويختم مذكراته بالعام 2011. سلط الكاتب الضوء على عدة أحداث هامة: مجزرة حماة في الثمانينات، انهيار الاتحاد السوفييتي، الحركات الطلابية، التشكيلات الحزبية وبالأخص الحزب الشيوعي، الطبقات المستحدثة التي بدأت تغير الديموغرافية في مناطق كدير الزور والطبقة وحمص ودمشق، القبضة الأمنية التي اشتدت شيئاً فشيئاً، والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتغييب في السجون دون محاكمات، الحرب على العراق وتدفق العراقيين على سوريا طلباً للأمن والأمان، تقسيم المجتمع إلى طوائف وتسييسها وتجييشها ضد بعضها بعض. وتطرق للحديث بإسهاب عن مآلات كل تلك الأحداث على الشارع السوري على اختلاف أطيافه. الكتاب يؤرخ للفترة الزمنية التي تمكن فيها حزب البعث من استلام السلطة وكيف عبث المتنفذون باسم السلطة بمصير الشعب السوري، ليصل إلى نتيجة مفادها أن الثورة السورية هي ذات مطالب محقة وجاءت حتمية للرد على الديكتاتورية.

الكتاب السابع  “العبور من الجحيم” (سيرة ذاتية لمعتقل) لحسين جلبي

 صدر عن موزاييك 2023. كما في العنوان الفرعي، تندرج الرواية في أدب السجون، حيث توثق بكاملها سيرة اعتقال شاب سوري، كما توثق أحداثًا وشخوصًا حقيقية بأسلوب أدبي متميز وسبك حكائي سلس، لكنها في الوقت نفسه تبرز عملاً فنيًا جميلاً.

الكتاب الثامن: (أسير الوالي: مذكرات مراسل الجزيرة في سجون الدولة الإسلامية) للصحفي عمر محمد الحاج هزاع.

 وقد صدر مؤخرًا عن دار موزاييك، وفيه يفرد عمر الحاج مذكراته وشهادته عند اعتقاله من قبل تنظيم الدولة في سوريا، وتنقله بين السجون ومشاهداته ومعايشاته فيها. الكتاب يقترب في سرده من السيرة الروائية ويتضمن حقائق وأحداثًا تروى لأول مرة.

وقد صدرت عدة كتب أخرى عن موزاييك وثق كتابها سيرهم ضمن الجو نفسه، منها “لفحات من سجن تدمر” لوليد شيخ نايف، ورواية “أوتار خلف القضبان” لأسعد شلال، و”إلى حبيبتي الصغيرة” لعمر فرج. كل هذه السير والمذكرات كانت أداة قوية لفهم الوضع السوري والعربي، من خلال ما روته هذه الشخصيات عن الأحداث التي عايشتها من منظور فردي وشخصي، مما أضاف عمقًا ومصداقية لمعاناة هذا الشعب المسحوق.

___________________________________

من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى