الباحث محمد نفيسة حول كتابه (مسلمو أوروبا): الجهل بالآخر هو أساس الفجوة القائمة
طرح قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي، لا تزال تشكل عقبة وحاجزاً يحول دون بلوغ حالة من التكامل والاندماج
العربي القديم | أجرى الحوار: وحيد تاجا
كانت العلاقات الإسلامية الأوروبية ولازالت، على مدار القرون، موضوعاً ساخناً وحاضراً لدى كلا العالمين، الإسلامي والأوروبي، منذ انطلاق الدعوة الإسلامية خارج الجزيرة العربية باتجاه الشام ومصر وشمال إفريقيا والأناضول وحتى الآن. ويعد الوجود الإسلامي الحالي في أوروبا، ركناً أساسياً في كثير من النقاشات الثقافية والصحفية والإعلامية، وجزءاً مهماً من البرامج السياسية والطروحات المستقبلية لمختلف التيارات والأحزاب السياسية في أوروبا، وهو إلى ذلك جزء من واقع عالمنا الإسلامي المستنزف في أبنائه وشبابه، بعد أن استنزف في ثرواته وطاقاته، وجزء لا يتجزأ من اهتمامات نخبه ومثقفيه وناشطيه..
وقد صدر مؤخرا عن دار المحيط للنشر، كتاب جدير بالاهتمام يبحث قضايا الوجود الإسلامي في أوروبا، عنوانه (مسلمو أوروبا: تحديات الدين والهوية والاندماج)، للكاتب والباحث السوري محمد نفيسة، المقيم في ألمانيا..
على مدار الأيام الماضية كان الكتاب محوراً في العديد من المحاضرات واللقاءات والحوارات، وقدم عدد من الكتاب والباحثين قراءات ومناقشات لمواضيع الكتاب في العديد من المنابر الصحفية. وبغية إلقاء مزيد من الضوء على الكتاب وأهميته ومضمونه، آثرنا أن نطرح على كاتبه عدداً من الأسئلة والاستفسارات، فكان لنا معه هذا اللقاء:
- بداية هل لك أن تعطينا لمحة عن الكتاب وأبرز موضوعاته؟
شكلت علاقة الإسلام بأوروبا، أو علاقة المسلمين بالآخر، نقطة المركز التي طافت في فلكها مواضيع الكتاب وفصوله. فالكتاب يبحث بالتفصيل أهم الأفكار الدينية التي يحملها المسلمون، والتي تؤثر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر، في اندماجهم وتفاعلهم وتكاملهم في المجتمعات الأوروبية، فموقع الدين لدى المسلمين ليس كموقعه لدى غير المسلمين، لاسيما في أوروبا، الدين يدخل لدى المسلم في تفاصيل حياته كلها، مأكله ومشربه وزواجه وطلاقه ومشاعره وعواطفه وعلاقاته وبيعه وشرائه… والبعد الديني الإسلامي المتعلق بالآخر مبني أساساً على الرؤية الإسلامية للذات وللآخر، وعلى الأفكار والمبادئ والتعاليم التي تتناول قضايا الآخر، وتحفل بها وتؤكد عليها المصادر الدينية المختلفة، ويتشربها المسلم ويستنشقها من مجتمعه ومرجعياته وثقافته.
بحث الكتاب في التصنيفات الدينية المختلفة الشائعة لدى المسلمين: [مسلمون مؤمنون كفار ملحدون أهل كتاب ذميون معاهدون…] وأثر هذا التصنيف في النظرة إلى الآخر والتعامل معه والموقف الإجمالي منه. كما تضمن بحثاً في الخريطة الدينية لأوروبا عامة وألمانيا خاصة. ثم انتقل إلى بحث معمق في أبرز الأفكار الدينية التي تبني العلاقة بالآخر وتؤثر في استعداد المسلم للاندماج مع مكونات المجتمع الأخرى وبناء حياة جديدة في وطنه الجديد، وبحث في التصنيف الإسلامي التاريخي للعالم إلى دار إسلام ودار حرب، أو دار إسلام ودار كفر، وتناول قضية الولاء والبراء وآثارها، وقضية الدين والدستور وسؤال الأولوية لأي منهما حال تعارضهما، ثم تطرقنا إلى موضوعات المرأة والحجاب والاختلاط والعمل والزواج والتحيات والقبلات المتبادلة بين الرجال والنساء، كل هذا من منظور الموقف الشرعي الإسلامي ومن منظور العادات والتقاليد والقوانين الأوروبية. وناقشنا كذلك العلاقات الجنسية، إن في إطار الزواج أو خارجه، والمثلية الجنسية المقوننة، وغير ذلك من المواضيع المكثفة التي اشتملت عليها فصول الكتاب ومباحثه وفقراته..
- وما الذي دفعك إلى العمل على هذا الموضوع وإخراج هذا الكتاب ونشره؟
من خلال حياتي في المجتمعين الإسلامي والأوروبي، لاحظت خللاً رئيسياً في علاقة المسلمين بأوروبا، ولدى التعمق في تتبع هذه الملاحظة تبين لي أن (الجهل بالآخر) هو أساس الفجوة القائمة بين المسلمين وغير المسلمين عموماً وفي أوروبا خاصةً، فتشكيل الصورة عن الآخر لا يتأتى من خلاله هو، أو من خلال مصادره، بل من خلال ما يحكيه غيره عنه. فالمسلمون ينظرون إلى أوروبا الاستعمار والحروب الصليبية، والانحلال الجنسي والتفسخ الاجتماعي، والرخاء الذي يقتات على نهب الشعوب الفقيرة. والأوروبيون تتشكل صورة الإسلام لديهم من خلال بعض النماذج من المسلمين الذين تسوّقهم وسائل الإعلام، فيرونه ديناً بعيداً عن قيم الحضارة الحديثة، يحمل معه الإرهاب والعنف، وقمع المرأة والتنكر لإنسانيتها، والعداء للآخر واستباحته..
فما هو مصدر هاتين النظرتين، وهل ثمة أساس استندتا إليه؟ وما السبيل إلى التغلب عليهما لبناء شكل جديد من العلاقات والتكامل؟
ينطلق هذا الكتاب من فرضية أن سبيل التغلب عليهما ليس مزيداً من التحريض والتخيل والتقوقع على الذات، بل الانفتاح المتبادل، والمعرفة بالآخر، والانتقال من حلبات المناظرة والاتهام أو المجاملة والنفاق، إلى ميادين المعرفة والحوار الصريح الذي يتناول القضايا والمعتقدات والاختلافات، تحت ضوء من الوضوح والصراحة والشفافية. هذا ما عملت عليه في هذا الكتاب من خلال طرح قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي، لا تزال تشكل عقبة وحاجزاً يحول دون بلوغ حالة من التكامل والاندماج والفاعلية في المجتمعات الأوروبية التي صار المسلمون جزءاً منها.
- هناك العديد من الكتب التي ناقشت موضوع المسلمين في أوروبا، ما الجديد الذي حمله كتابك؟
الكتب والدراسات التي ناقشت موضوع المسلمين في أوروبا، تناولته من أبعاد أخرى غير البعد الديني الفكري، ولم تجب عن التساؤلات التي تتعلق بالأسس الفكرية التي تعزز حالة القطيعة مع الآخر، فبعضها ينطلق محاولًا دحض المقولات والعبارات المكرّرة في الإعلام الغربي، بأنّ الإسلام لا يتوافق مع القيم الغربية، أو أنّه لا ينتمي إلى أوروبا، أو أنّ الإرهاب مرتبط عضويًّا بالإسلام، وبعضها الآخر يكتفي بتوصيف الواقع تاريخيًّا وآنيًّا، من حيث وجود المسلمين ومؤسّساتهم، وتفاعل المؤسّسات الأوروبية الرسمية وردود أفعالها عليه، وحتى الكتب التي تناولت التحديات الدينية التي تواجه المسلمين في أوروبا في المأكل والمشرب والعلاقات الجنسية والعلاقات الاجتماعية والعمل وغيرها، تناولتها في صيغة حلول فقهية وفتاوى دينية. وهذا كله لا يلبي الحاجة إلى وضع أساس فكري متين، معتمد على فهم أصيل للدين وأحكامه ومقاصده وتطبيقاته، لتقوم عليه الحياة المشتركة والتكاملية في أوروبا المستقبل..
إننا في هذا الكتاب بصدد إحداث نقلة نوعية في التعاطي مع قضايا الإسلام والمسلمين، دون خوف أو وجل، ودون مراوغة أو تقية، ودون هروب أو انغلاق أو انعزال، نطرح ما لدينا بثقة ومحبة وانفتاح، دون ذوبان في الآخر ودون انسلاخ عن هويتنا الإسلامية الأصيلة.
- تَطَرَّقتَ في هذا الكتاب في فصلين منفصلين، إلى مفهوم دار الاسلام ودار الحرب، ومفهوم الولاء والبراء، هل يمكن إيضاح علاقة هذين المفهومين بقضايا الهجرة واللجوء والمسلمين في أوروبا؟
قد يستغرب أحدنا أن يكون هذان المفهومان مما يمكن طرحة في مناقشة قضايا المسلمين في أوروبا، لكن يكفي أن تضع على أحد محركات البحث في الإنترنت سؤالاً عن حكم إقامة المسلم في بلد أوروبي، أو عن حكم العلاقة مع غير المسلم، أو حكم الترحم على غير المسلم أو محبته أو معايدته أو مجاملته، أو أي قضية تتعلق بالوجود الإسلامي في أوروبا؛ لتجد نفسك أمام سيل من فتاوى التحريم والمنع والتخويف والكراهية. هذه الفتاوى تستند في مجملها إلى إحدى قضيتين، الأولى تتعلق بالتقسيم الفقهي الإسلامي للديمغرافيا السكانية للعالم، فيما يسمى بالولاء والبراء. والثانية تتعلق بالتقسيم الجغرافي الإسلامي للعالم إلى دارين، دار إسلام ودار كفر.
بناءً على مفهوم دار الإسلام ودار الحرب طرحت الرؤية الإسلامية المعاصرة في العلاقات الدولية والعلاقات الخارجية من منظور إسلامي، فالعالم ينقسم إلى دارين: دار تسود فيها أحكام الإسلام وتدين بالخضوع لسلطة المسلمين وأمانهم، ودار تسود فيها أحكام غير المسلمين، أو الكفار، وتدين بالخضوع لسلطتهم وأمانهم. وإن لهذا التقسيم آثار عديدة، في مقدّمتها يقع حكم الإقامة في دار الحرب، والموقف من الهجرة، ومسألة مدى عصمة دار الحرب أو إباحتها، بأنفسها وأموالها وأعراضها، ثمّ تأتي سائر الأحكام التفصيلية الموزّعة بين البيوع والتجارة والاستيراد والتصدير وشراء وبيع الأسلحة والضرائب والربا الإرث وغيرها. ولكن هل ثمة وقائع ومستجدات تحتم علينا إعادة النظر في هذا التقسيم، وهل هذا التقسيم من ثوابت الدين المستندة إلى المصادر التشريعية القطعية؟
وما يقال في موضوع التقسيم الجغرافي عبر مفهوم دار الحرب ودار الإسلام يقال كذلك في موضوع التقسيم الديمغرافي للبشرية على أسس عقائدية فيما يندرج تحت مبحث الولاء والبراء.. وإذا كان التقسيم الجغرافي يتناول قضايا أقاليم أخرى قد تكون بعيدة عن المسلم في حياته اليومية، فإن قضية الولاء والبراء تتناول الجار والشريك والمواطن، مما تجمعك بهم أكثر مناسبات الحياة والمصالح والمرافق والاهتمامات..
من هنا رأينا ضرورة البحث في أصول هذه التقسيمات، وتاريخية نشوئها، ومدى تغير الظروف والشروط التي رافقت صيرورتها عبر الزمن، وصولاً إلى تنزيلاتها الحديثة على واقعنا، وأثر كل ذلك على المسلمين واندماجهم وحياتهم في أوروبا، وصولاً إلى تقديم رؤية جديدة ترسم آفاقاً وحلولاً مستندة إلى مقاصد الدين وروحه.
- للمرأة وقضاياها حضور في فصول مهمة من كتابك، كيف تناولت قضايا المرأة المسلمة في أوروبا؟
تحمل المرأة المسلمة المهاجرة أعباء العمل والأسرة معاً، وتواجه تمييزًا مركّبًا لأكثر من سبب، فهي تتعرّض لما تتعرّض له المرأة عمومًا من صنوف التمييز القديمة والحديثة بوصفها أنثى، وتتعرّض أيضًا للتمييز المستند إلى سببين آخرين، الأول: إنّها مهاجرة، تحمل شخصية مختلفة في العرق واللون والشكل والأصل، والثاني: إنّها تحمل هوية دينية وثقافية وفكرية مختلفة.
والتمييز أنواع، غير أننا في هذا الكتاب ناقشنا المشكلات والتمييزات المرتبطة بالهوية الدينية للمرأة، وما يتعلّق منها بقضايا الاندماج، والتفاعل الإيجابي، وتحقيق الذات، وخدمة المجتمع.
تأتي قضية (الحجاب) في مقدّمة القضايا التي تواجه المرأة في رحلة الاندماج، وفي التعلّم والعمل، ثمّ تأتي مسألة اختلاط الجنسين في المجتمع والمدرسة ودروس الرياضة وحمامات السباحة والشواطئ والرحلات، وقضية العلاقة بالجنس الآخر، ومن يتبع ذلك في مسألة التحيات المتبادلة بين الجنسين، والمصافحة أو المعانقة أو التقبيل، وموضوع زواج المسلمات بغير المسلمين، إضافة إلى موضوعات تحديد سنّ الزواج، والزواج القسري، وتعدّد الزوجات، وغيرها..
وقد ناقشنا مجمل هذه القضايا بدراسة واقعية للتعامل العملي والقانوني مع المرأة المسلمة، ودراسة للبعد الديني والموقف الشرعي، وقدمنا روىً وآفاق فيها، معتمدين في كل ذلك على الأبحاث والإحصائيات واستبيانات الرأي، والدراسات الإسلامية والمقاصد الشرعية والمصالح العامة والخاصة، ومتطلبات التكامل والاندماج وأهمية أثبات الذات والمشاركة الفاعلة للمرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجتمعاتهم الأوروبية الجديدة.