أورينت التي دفعت الثمن: بين الأوقات الجميلة والمنغصات الكثيرة
صخر بعث – العربي القديم
كان أوّل عهدي بالكتابة في “أورينت” التاسع عشر من تمّوز 2015، وكان السبب مباشرةً هو ابن البلد وصاحب “أورينت” المحترم “غسّان عبّود، حين عبّر عن إعجابه ببوستات قرأها في صفحتي، ونصحني بالكتابة في الموقع قائلاً: عم تكتب وتكتب، ليش تكتب ببلاش؟ بل كنتُ في البداية أرسل المواد إليه فيساعدني مشكوراً بتمريرها إلى رئاسة التحرير، وأذكر أنّه شبّه أسلوبي في الكتابة بأسلوب “المازني”، هذا المازني الذي ظللتُ أظنّه شخصين لا واحداً، حتّى نبّهني رئيس تحرير “أورينت نت” الصديق الظريف الخلوق محمّد منصور قائلاً: “ولك يا بني آدم.. هاد إبراهيم المازني نفسو إبراهيم عبد القادر المازني، ليش ما عمتركب معك هالشغلة ما فهمت!”.
حدث هذا قبل انقطاعي عن الكتابة لأورينت أكثر من خمس سنوات لسبب مباشر، وهو عملي في “أورينت” نفسها، لكنّما “أورينت الإنسانية” في إدلب، مديراً إدارياً لمجمّعها الطبّي عند تأسيسه، ولسبب غير مباشر هو انشغالي التامّ عن الكتابة بعد مغادرتي إلى تركيا، ثمّ كانت “أورينت” قد أوقفت الكتابة في مقالات الرأي فترةً على ما أذكر، حتّى أرسل لي الأستاذ محمّد منصور مُرحّباً بعودتي إن رغبتُ، فعدتُ فعلاً، وما أرسلتُ له مقالةً مرّةً إلا ونشرها، من لا ينشر للمازني؟
المهمّ.. قضيتُ أوقاتاً جميلةً في “أورينت الإنسانية”، رغم منغّصات كثيرة حدثت دفعتني أخيراً إلى الاستقالة، وأوقاتاً أجمل مع “أورينت الإعلامية”، رغم التقصير الذي أزعم أنّني تعرّضت له، فلقد كانت رغبتي عارمةً في أن تكون لي فيها وظيفة ثابتة، ولم يستجب صاحبها لذلك فشكرته وأظلّ، ومن طباعي الحميدة -أعتقد- أنّني ألتمس للناس وبمحبّة الأعذار.
العمل في، أو لصالح “الأورينتين” معاً، جعلها تعشعش في الذاكرة وفي الخاطر هذه الكلمة “أورينت”، وقبل أن أدلي بدلوي في هذا المقال حول مناسبة كتابته أصلاً، وهي المشاركة في العدد الذي يخصّصه الصديق أبو يزن للحديث عن “أورينت الإعلامية”، بمناسبة الذكرى السنوية -أو النكبة السنوية بالأحرى- لإغلاقها، فأنا أمرّ كلّ يوم تقريباً بجوار المبنى الذي كان مقرّ “أورينت الإنسانية” بمجمّعها الطبّي في إدلب، فأراها اختفت، أمرّ، وأشعر بالمرار!
من جهة أُخرى (كما يستعمل المحلّلون هذا المصطلح العشوائي) فلا جهة ولا وجهة، يمكن القول إنّ ثمّة ثالوثاً اعتاد الناس عليه هُنا، وهو ثالوث “إدلب، أورينت، غسّان عبّود”، هكذا والحقيقة تُقال: صحيح، فالرابط واضح وبسيط، لكن ليس كمدينة أو محافظة ومؤسّسة ومالك، بل محافظة ثائرة، مؤسّسة ثورة، ومالك استثنائي العزم على دعم بلده وثورته، فهل انهار هذا العزم؟ سؤال تلقّيته عشرات المرّات هنا في “إدلب العامرة”، منذ أن أُعلِن عن إغلاق “أورينت” بشقّيها الإعلامي والإنساني، وكانت إجابتي دائماً وما عندي، وأزعم أنّه، وليس عند أحد غيري غيرها، هذه الإجابة البسيطة الصادقة: الله أعلم!
بعد أيّام من إغلاق “أورينت الإعلامية” مازحتُ جادّاً والله أبا يزن المحترم، قلت: بدّي أرفع دعوى عالأستاذ غسّان، هذه الأورينت لنا جميعاً، وليس من حقّه التصرّف بإرادته المنفردة، فيغلقها، ويصبح أولادها يتامى (هذه العبارة من عندي لكنّني أقولها الآن)، قال: والله يا أبو الصخور.. الملك ملكه وهو حرّ، والخسارة كبيرة.
والله صحيح.. لكنّما الصحيح أيضاً مسألتان:
– الأولى حجم كلّ هذا الفراغ الهائل أو الحجم الهائل لكلّ هذا الفراغ، أو كلّ هذا الفراغ هائل الحجم الذي أحدثه إغلاق “أورينت”، فلم تكن علاقة الناس بها مصادفةً عابرةً، أو تعلّق اعتمادهم عليها بظرف بسيط أو حادث عاديّ، بل كان اعتماداً دائماً وتعلّقاً شديداً بإعلام قدّم للسوريين جميعاً، وليس لجزء منهم فقط وجه الحقيقة الناصع والواقعي، ولا أعتقد أنّ لدى أحد -حسب علمي- دليلاً واحداً على غير ذلك، فيمكنه اتّهام “أورينت” بالتضليل أو التزييف.
– وأمّا المسألة الثانية، فهي أنّ المهمّة المطلوبة التي آلت “أورينت” على نفسها أن تشارك في إنجازها لم تُنجز، ولم يتحقّق بعد الهدف الرئيس الذي سعت إليه، وكرّست طاقاتها ومواردها في سبيله، وهو بالتأكيد انتصار “الثورة السورية العظيمة”، الثورة التي حملت “أورينت” وحملنا معها رايات الحرّية والكرامة من أجلها، ووطّدنا العزم على انتصارها.
بالطبع لقد دفعت “أورينت”، ودفع مالكها وأهلها أثماناً مختلفةً بسبب مواقفها ومواقفهم، فهُوجمت المؤسّسة في الإعلام المضادّ، وفي الإعلام الموازي (إن صحّ التعبير)، تمّ اتّهامها بالطائفية، وهي التي عرّت طائفية النظام وزمره، وبمحاربة الأقلّيات وهي التي جعلت من اللغة الكردية لغةً يسمعها السوريون لأوّل مرّة في وسيلة إعلام سورية، ولم تدّخر مناسبةً إعلامية أو تلفزيونية للحديث عن تاريخ “سوريا” وذاكرتها السياسية والوطنية، ولا فرصةً مواتيةً من أجل تحفيز السوريين جميعهم على الخلاص من الظلم والكراهية والاستبداد والطائفية، نحو “سوريا حرّة” كما نتمنّاها وتمنّاها “غسّان عبّود”، “أورينت” التي دفعت ثمناً باهظاً لمواقفها الإنسانية بتعرّض منشآتها الطبّية مرّات ومرّات لقصف طيران أسد وأعوانه، فسقط الشهداء والجرحى على مذابح الكرامة، ولمواقفها الإعلامية، فلوحق أهلها وحوكم إعلاميوها، ولا تزال ثمار هذا البذل وآثار هذا الصدق وهذا النجاح واضحة المعالم، قويّة الملامح، ولن تُنسى أبداً.
من المُؤثّر المُحزن المُربك المُزعج إغلاق “أورينت”، ثمّ مرور الزمن للكتابة عنها بدل الاستمرار في الكتابة فيها، وأكرّر أنّها ليست ذكرى ما نكتب عنه أو بشأنه اليوم، بل هي نكبة من نكبات الثورة، وأضيف: ثمّة مشاريع بوسائلها وأهدافها لا ينبغي لنا الشروع بها إلّا بشرط واحد لا يمكن أبداً التنازل عنه، وهو ألّا تنتهي هذه المشاريع قبل أن تؤتي أكُلها، ولقد كان “مشروع أورينت” من أشجعها وسيلةً وأجملها هدفاً، فيا للخسارة ويا للأسف!
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024