الرأي العام

حزب العمال الكردستاني بين أفق البندقية ومعترك السياسة: لحظة التحول أم سراب التكتيك؟

إلقاء السلاح ليس مجرد فعل مادي، بل قطيعة مع سردية كاملة. إنه إعلان بأن البندقية لم تعد الطريق

سامي زرقة – العربي القديم

في أقصى الجنوب التركي، حيث تُسمع أصداء الجبال وتُشمّ رائحة البارود منذ عقود، يتردد اليوم نداء من نوعٍ مختلف.. حزب العمال الكردستاني، الذي طالما اتخذ من السلاح لساناً ومن الجبال معقلاً، يُطلّ برأسه على بوابة السياسة، معلناً – كما تسرّبت من دوائر القرار– بدء إلقاء السلاح والانخراط في الحياة السياسية.. فهل نشهد انكسار بندقية أم إعادة تموضع؟ هل تُطوى صفحة العنف أم يُعاد تأليفها بلغة جديدة؟

إرث البندقية.. الجراح المفتوحة

منذ اندلاع الصراع المسلح في ثمانينيات القرن الماضي، دفع الأكراد والأتراك ثمناً باهظاً من الدماء والدموع.. عشرات آلاف القتلى، ومناطق أُفرغت من سكانها، وتنمية مشلولة في جنوب شرق الأناضول.. حزب العمال الكردستاني (PKK)، المدرج على قوائم الإرهاب في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، رسّخ لنفسه حضوراً لا يُمكن تجاهله في الوعي الكردي – سواء كحركة مقاومة أو كقوة صلبة أحكمت قبضتها على الحلم القومي.

لكن بندقية الحزب لم تعد وحدها الفاعل في المشهد.. الواقع الجيوسياسي تغيّر، ومعه توازنات القوة.

تحولات الداخل والخارج.. لماذا الآن؟

ما الذي يدفع الحزب إلى هذا المنعطف؟ ثمة عوامل عدة تقاطعت في لحظة مفصلية:

-الإنهاك العسكري: سنوات من المطاردة في الجبال، وضربات دقيقة بالطائرات المسيرة التركية، وشبكات استخباراتية تضيّق الخناق.

-التحول الإقليمي: الفوضى السورية أعادت ترتيب أولويات القوى الكردية.. وحدات حماية الشعب (YPG)، الفرع السوري للحزب، وجدت نفسها في تماس مع أجندات دولية، واضطرت لمساومات سياسية على حساب الخطاب الثوري.

-ضغط القواعد الشعبية: الحلم الكردي الذي رُفع بالسلاح لم يتحقق، بينما ظهر جيل جديد من الأكراد يميل إلى المساواة المدنية أكثر من المشروع القومي المسلح.

-براغماتية أنقرة: على الرغم من الخطاب القومي الصلب، لا تخلُ الدولة التركية من عقلٍ براغماتي يدرك أن السلم أقل كلفة من الحرب، خصوصاً في مرحلة تعافي اقتصادي هش.

من لغة الرصاص إلى منبر البرلمان؟

إلقاء السلاح ليس مجرد فعل مادي، بل قطيعة مع سردية كاملة. إنه إعلان بأن البندقية لم تعد الطريق، وأن الهوية تبحث عن تجسيدها في المؤسسات، لا في المتاريس.. غير أن هذا التحول، إن صح، يثير أسئلة جوهرية: هل تملك الدولة التركية القابلية لدمج حزبٍ كان حتى الأمس القريب عدواً عنيداً؟ وهل يمكن للحزب، بتاريخه وخطابه، أن يتحول إلى فاعل سياسي مدني دون أن يفقد قاعدته الراديكالية؟ وهل يمكن للجرح التركي-الكردي أن يندمل بالحوار، أم أن الغبار يخفي نوايا غير معلنة؟

شبح التكتيك أم أمل التحول؟

لا يمكن إغفال احتمال أن يكون هذا التحول تكتيكياً، يهدف إلى التقاط الأنفاس وإعادة التموضع.. الحزب، الذي أتقن اللعب على حافة السياسة والسلاح، قد يُعيد الكرة بأدوات مختلفة.. لكن من جهة أخرى، فإن السياسة حين تفتح أبوابها، تُغري حتى أكثر الحركات تشدداً بالتحول إلى جزء من اللعبة، لا خصم لها.

بين الممكن والمأمول

إن لحظة إلقاء السلاح – إن صدقت النوايا – هي لحظة نادرة في تاريخ الشعوب؛ لحظة تعترف فيها القوة بأن الكلمة قد تكون أنجع من الرصاصة، وأن الكرامة لا تُنزع بل تُنتزع من قلب المؤسسات.. فهل نكون أمام تحول حقيقي يُعيد صياغة العلاقة بين الدولة التركية ومواطنيها الأكراد؟ أم سنشهد فصلاً جديداً من لعبة الحرب والسلم؟

في هذا المفترق، لا يعلو صوت على صوت الحكمة.. والسؤال الذي يجب أن يُسأل اليوم: هل آن أوان المصالحة مع الذات الوطنية، أم أن الطريق لا يزال مغموساً بدماء الأمس؟

زر الذهاب إلى الأعلى