عبد الناصر راعي الانفصال والنكسة
كثيراً ما كنت أسمع، وأنا طفل صغير لم أتجاوزِ العاشرة من العمر أناشيد حماسية راجت في ستينيات القرن العشرين، وما بعدها بقليل تُمجّد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومن هذه الأناشيد:
(عبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنا
فيكم حققنا الآمال ونلنا غاية وحدتنا
فيكم حققنا الآمال وكنا رهن الاستقلال
وعَ نهجك سارت أشبال في تعزيز كرامتنا)
كان الأهل يردّدون على مسامعنا هذا النشيد، بمنتهى الحماس والصدق، حسب وعيهم السياسيّ المحدود في ذلك الوقت، فقد استبدّ عبد الناصر بقلوبهم، كما استبدّ بالوطن شماله وجنوبه، وربما هذا ما دفع الفنّان الشعبي ياسين محمود، لأن يغنّي النشيد السابق (عبد الناصر يا جمال)، وهو الحموي الكردي الأصل، ولكنه العروبي الهوى والعشق.
كانت الوحدة مطلباً شعبياً يتلهّف السوريون لها، وربما هذا ما دفع إلى الإسراع بقيامها، مع مصر عام 1958، وقبول شروط عبد الناصر بحلّ الأحزاب، وغير ذلك من إملاءات مُجحفة بحقّ الإقليم الشمالي (سوريا).
جعل عبد الناصر سوريا حديقة خلفية لمصر، ونصّب عليها صديقه وزميله المشير عبد الحكيم عامر الذي حكمها بالحديد والنار، بمساعدة المخابرات، وعلى رأسها العقيد عبد الحميد السرّاج الذي، لاحق الأحزاب، وكمّ الأفواه، فامتلأتِ السجون بالأحرار، ولاسيما سجن المزة العسكري الذي شهد فظائع وجرائم الجهاز الأمني، وتجلّى ذلك بإعدام المناضل الشيوعي فرج الله الحلو، وإذابته بالأسيد.
لا شكّ أن عبد الناصر وحدَه مَن يتحمّل مسؤولية كلّ ما جرى من أخطاء وتجاوزات، بحقّ الوحدة والسوريين،
فانتهتِ الوحدة بتمرّد الضباط السوريين في دمشق، وأعلن الانفصال عام 1961، وتخلّص السوريون من عهد التسلّط والتحكم، من قبل ثلّة من الضباط المصريين الذين أُطلقت أيديهم في الإقليم الشمالي، ليفعلوا ما يشاؤون، ويقيموا نواة لدولة بوليسية.
من جهته أعلن عبد الناصر في خطاب جماهيري استنكاره، لما حدث، وحمّل المسؤولية كالعادة للرجعية والرأسمالية التي تتربص بالبلاد والعباد، ولم ينسَ عبد الناصر أن يذكر الإنجازات التي تحقّقت في سوريا في ظلّ الوحدة.
عبد الناصر، كما هو معروف من دُهاة الساسة في عصرنا، ويعرف ما كان يفعل بالضبط، وهو بخطابه التعبويّ أراد التنصّل من مسؤوليته عن الانفصال، كما حدث بعد ذلك عند نكسة حَزيران، ففي التاسع من يونيو عام 1967، وبعد خمسة أيام من النكسة، كنوع من التظاهر بتحمّل مسؤولية النكسة، تنحّى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وخرج بخطابه الشهير وقال فيه:
” لقد قررت أن أتنحّى تماماً ونهائياً، عن أيّ منصب رسمي، وأيّ دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدّي واجبى معها كأيّ مواطن آخر”
بهذه الكلمات أعلن عبد الناصر تنحيه عن رئاسة الجمهورية، وإسناد المنصب إلى زكريا محيي الدين أحد الضباط الأحرار وعقب سماع خطاب التنحّي، قيل بأن جموع الشعب الغفيرة خرجتْ في مسيرات ترفض خطاب عبد الناصر، وتطالبه بالعودة إلى الحكم، من جديد مُرددة هتافات:
(ارفضْ ارفضْ يا زكريا عبد الناصر مية المية)، وردّد الشعب الهتاف الذي ذاع صيته في الآفاق: (أحا أحا لا تتنحّى)، مُوجّهين الهتاف لعبد الناصر.
وشاركت أمّ كلثوم الشعبَ المطالبةَ ببقاء الرئيس، ورفض التنحّي بأغنية بتوقيع صالح جودت تأليفاً، ورياض السنباطي تلحيناً، حيث غنّتْ فيها:
(قمْ واسمعْها من أعماقي فأنا الشعب
ابقَ فأنتَ السد الواقي لمنى الشعب
ابقَ فأنتَ الأمل الباقي لغد الشعب)
وبسبب هتاف (أحا) الشهير، عاد عبد الناصر عن قرار استقالته في اليوم التالي.
يبدو بأن لكلمة (أحا) سحراً خاصاً أعاد عبد الناصر إلى سدّة الرئاسة.
إعلان الاستقالة كان مجرّد مسرحية مُتقنة التأليف والإخراج، وهو أيْ عبد الناصر حسبَ حساب كلّ شيءٍ، قبل خطابه الشهير، وهو بحركة التنحّي الخلبية أراد امتصاص نقمة الجماهير الغاضبة، من نتائج نكسة حزيران،
لذلك قال عبد الناصر لمحمد حسنين هيكل:
“إنني لا أستطيع أن أتصوّر ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير، وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم”.
ولكنْ هناك من الشعب المصري مَن لم تنطلِ عليه الحيلة، وطالب بالتنحي حقيقةً وليس كلاماً، ورأى أن الدكتاتورية هي التي ساقتِ الجماهير، إلى التمسك بالرجل الأوحد وتمجيده،
لذلك وجّه بعضهم لعبد الناصر الهتاف: (أحا أحا أنت مش حتتنحى ؟!).
وهكذا استطاع عبد الناصر التخلّص من عقابيل النكسة بخطاب تنحّيه المزعوم، ولكنه عند الانفصال لم يستطع بخطابه التعبويّ أن يُعيد اللحمة والوحدة، بين شطري الجمهورية العربية المتحدة، لأن أكثر الناس حماسة للوحدة في سوريا آنذاك كفروا بها، وطالبوا بالانفصال.
كلّ المتابعات الصحفية التي واكبت الانفصال، بين شطري الجمهورية العربية المتحدة، أو التي كُتبت بعد ذلك لكتّاب سوريين تُجمع على أن جمال عبد الناصر طاغية ودكتاتور، وإن تزيّا بلبوس القومي والوطني، وإنه تاجَر بالوحدة، وبالقضية الفلسطينية.
عبد الناصر دكتاتور لم يتوّرع عن قتل أقرب أصدقائه، وهو المشير عبد الحكيم عامر الذي قيل إنه مات مسموماً، وهذا ما ألمح إليه، وحذر منه الكاتب الصحفي أحمد عسة في المقال المرفق بهذا العدد.
جمال عبد الناصر رمز من رموز الديكتاتورية في الوطن العربي والعالم، وهو لا يقلّ إجراماً ودمويةً عن زملائه الآخرين من الحكّام والرؤساء، ولكن السؤال: هل كان لعهد الوحدة، والقضاء على الحياة السياسية دور فيما وصلت إليه سوريا من سيطرة حكم البعث، والحركة التي سُميت بالحركة التصحيحية؟!
_________________________________________
من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال- أيلول/ سبتمبر 2023