رحيل ثناء دبسي: سيدة المسرح السوري الأولى وحارسة القيم في ذاكرة الفن!
العربي القديم – محمد منصور
نعى السوريون على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي الفنانة السورية الكبيرة ثناء دبسي التي رحلت في دمشق عن عمر ناهز 83 عاماً. فكتب الفنان فارس حلو يقول: “وداعاً ثناء دبسي، ثناء من القلة القليلة، ممن تشابه نقاؤهم الخارجي مع نقائهم الداخلي. الرحمة والسلام لروحك الحنونة.. وعزائي الحار لأسرتك الطيبة”.
ولدت الفنانة ثناء بنت طاهر دبسي في مدينة حلب عام 1941، وبدأت مسيرتها الفنية في مسارح حلب أواخر خمسينيات القرن العشرين، حين انتسبت إلى فرقة (مسرح الشعب) لتمارس أنشطة فنية متنوعة محورها التمثيل، قبل أن تنتقل إلى دمشق لتكون واحدة من العناصر التمثيلية الهامة في فرقة المسرح القومي التي تأسست رسمياً عام 1960، بعد أن اختارتها لجنة من وزارة الثقافة مع شقيقتها الصغرى ثراء دبسي لتكونا من عناصر المسرح القومي الذي كان يجري تأسيسه إثر مشاهدتهما في عرض على مسرح دار الكتب الوطنية بحلب عام 1959 بعنوان (غداً تشرق الشمس) فشكلت الشقيقتان رافداً مهماً للعناصر النسائية في المسرح، وبينما كانت ثناء في موسم عام 1962 المسرحي، تقوم ببطولة مسرحية (الأشباح) من إخراج هاني إبراهيم صنوبر، كانت شقيقتها ثراء تشارك في مسرحية (المفتش العام) مع المخرج نفسه.
السيدة الأولى للمسرح القومي
كانت ثناء دبسي نجمة المسرح القومي في بداياته، وربما كانت أولى سيدات هذا المسرح الذي شهدت خشبته وعروضه الأولى منافسة قوية، بينها وبين السيدة منى واصف القادمة من المسرح العسكري… وقد عرفتُ السيدة ثناء دبسي مبكراً، كنت طالباً في قسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية، في حوالي العشرين من العمر، حين زرتها في بيتها مع زميلتي سوسن علي. فخلال دراستي المسرحية وقعت في غرام كاتبين مسرحيين أسرني مسرحهما وأدبهما: لوركا الإسباني، وتشيخوف الروسي. كان سبب زيارتي للسيدة ثناء حلقة بحث عن مسرحية (عرس الدم) للوركا بين النص والعرض، فقد لعبت السيدة ثناء بطولة هذه المسرحية التي أخرجها للمسرح القومي أسعد فضة في موسم عام 1966- 1967، كما قدمتها في عرض زائر في الكويت عام 1968، وكانت أول مرة تزور فيها فرقة المسرح القومي السوري الكويت.
كان حضور الشخصية حاراً في ذاكرة ثناء دبسي رغم أننا كنا نتحدث عنها معها عام 1990، أي بعد نحو ربع قرن على أدائها، وأضاءت شهادتها لنا، شيئاً من تقاليد العمل على الشخصية في ذلك العهد، من تفتح أجواء العمل المسرحي على الحس الأكاديمي والاحترافي مستفيداً من الموهبة والدأب والاجتهاد. وسرعان ما غدت هذه السيدة الهادئة الوقورة التي تكره المجاملات والأحاديث المنمقة، وتعترض بلباقة على بعض ملاحظات زوجها سليم صبري المرحة، صديقتنا. ولهذا ما إن بدأت عملي الصحافي، حتى سارعت لطلب الإذن من السيدة ثناء بإجراء حوار معها، نُشر في زاوية (حوار مسرحي) في مجلة (فن) اللبنانية عام 1991، على أربع صفحات، روت فيها الكثير من محطات تاريخها المسرحي العريق، وأسفت فيها لحال المسرح وما انتهت إليه أحلام الرواد.
الجدية، والذاكرة المتوقدة، والإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، تجاه تغيير نظرة الناس للفن، كانت ركائز أساسية في شخصية السيدة ثناء دبسي الفنية والاجتماعية، مشفوعة بقيم نبيلة أبرزها الوفاء. ولهذا حين طلبت منها بعد سنوات، وكنت مدير تحرير لإحدى المجلات الفنية المتواضعة، أن تكتب لي لزاوية أحدثتُها في المجلة بعنوان (فنان عرفته)، يكتب فيها فنان عن زميل له… اختارت السيدة ثناء أن تكتب عن أستاذها في المسرح: نهاد قلعي، ولم تستطع وهي تحدثني عن هذا الفنان العظيم أن تمنع دمعة ألم سقطت على جحود زملائه ورفاق دربه له.
تحوّل ما كتبته ثناء دبسي عن نهاد قلعي، إلى شهادة أساسية في كل من كتب عنه، فقد استعنت بها حين كتبت سيرة نهاد في موسوعة (رواية اسمها سورية) التي ألّف فصولها مجموعة من الكتاب والباحثين… كما أعاد نشرها محمد أكرم العلبي، حين خصص فصلاً من كتابه (ظرفاء من دمشق) لسيرة نهاد. تقول السيدة ثناء في زاويتها المفعمة بالصدق والعذوبة:
” عندما تعود بنا الذاكرة إلى تلك الأيام التي يذكرها جميع الزملاء، ندرك أن هذا الفنان كان وراء هذا الحماس الكبير الذي كان يغمرنا، والذي صنع ذلك النشاط المسرحي في تلك الفترة من الزمن. كان موجوداً في كل لحظة من حياتنا.. لم ينسَ يوماً الكلمة الطيبة، ولن ننسى جميعاً الفرح في عينيه لنجاحنا، ولا باقة الورد التي تسبقنا إلى أفراحنا ولا اعتزازه وفخره بنا. في ذلك الوقت ربما لم نكن ندرك أهمية ما يفعله هذا الرجل الذي يكتم همومه عنا، ويشركنا في فرحه وأفكاره… ولكن اليوم وبعد كل هذه السنوات وقد مضى نهاد قلعي إلى قدره، ندرك أن الجهد والحب والعطاء والرعاية والصداقة التي قدمها لنا، رسخت فينا أخلاق المهنة، وشرف الكلمة، وصدق المعاملة. لقد تعلمنا كلنا من الرجل البدين الذي كان يلقي النكات أن الحب يفعل المعجزات. لقد كان نهاد قلعي يملك الحب في قلبه، والطفولة في عينيه، والخير في راحة يديه. كان عاشقا للفن.. أصيلاً”.
شاركت السيدة ثناء دبسي نهاد قلعي بطولة عدد من العروض، أبرزها: (مروحة الليدي وندرمير) إخراج هاني إبراهيم صنوبر، و(الأخوة كارامازوف) إخراج أسعد فضة، ولهذا بقيت صورة نهاد قلعي لديها هي صورة الرائد المسرحي المؤسس، الذي أعطى الكثير ولم يأخذ إلا القليل… وبمثل هذا الوفاء، ارتبطت بابن مدينتها الرائد التلفزيوني المؤسس أيضاً: (سليم قطاية) الذي خطفه الموت باكراً، بعدما قدّم أول مسلسل تلفزيوني في تاريخ الدراما السورية، وهو مسلسل (ساعي البريد) عام 1962، كما قدّم سلسلة تلفزيونية قدم فيها روائع المسرح العالمي على الشاشة الصغيرة، بعنوان: (من المسرح العالمي)، وقد شاركته السيدة ثناء هذين العملين، وكان آخر ما أخرجه للتلفزيون قبيل رحيله تمثيلية مستقاة من مسرحية للكاتب الإيرلندي سينجه ترجمت تحت عنوان (راكبو البحار)، لعبت بطولتها ثناء دبسي.. كما شاركته تجربته المسرحية الأولى في المسرح القومي بدمشق (لو رآنا الناس معاً) عام 1964، والتي رحل قبل استكمال إخراجها، وقد استكملها حينذاك المخرج علي عقلة عرسان، والتي ستصبح السيدة ثناء إحدى نجمات مسرحياته المفضلات كـ (زيارة السيدة العجوز) عام 1971، و(الملك لير) عام 1976 أمام الفنان عبد اللطيف فتحي، وستتألق في واحدة من أجمل أدوارها المسرحية في “الأشجار تموت واقفة” عام 1978بتوقيع علي عقلة عرسان نفسه.
توقفت ثناء دبسي عن العمل في المسرح القومي منذ عام 1978، وغابت لأكثر من عشرين عاماً لتعود في العام 1999 بعرض “تخاريف” من إخراج زوج ابنتها الفنان ماهر صليبي، ومن تأليف كوليت بهنا، وعبد المجيد حيدر، وماهر صليبي. في هذا العرض أذكر أن السيدة ثناء وقفت مع مجموعة من الممثلين الشباب بينهم ابنتها يارا صبري، ونضال سيجري، ومايا نبواني، ومنصور نصر، فأشاعت جواً من التواصل الحي والدفء المسرحي في زمن غاب فيه الفنانون المخضرمون عن المسرح؛ الأمر الذي كان يلهب الأكف بالتصفيق حين كانت تقف في نهاية كل عرض لتحيي الجمهور.
من الأميرة الخضراء إلى أم “قلوب خضراء”
ومن قلب هذه الأسرة الفنية استمرت ثناء دبسي تُرسي شكلاً آخر ومختلفاً من القيم، فهي بخلاف العديد من الفنانات اللواتي تزوجن من ممثلين أو مخرجين، لم تكن السيدة ثناء دبسي ضيفة دائمة على المسلسلات أو المسرحيات التي أخرجها زوجها الفنان سليم صبري، التي ارتبطت به عام 1964… وربما كانت الأدوار التلفزيونية الأهم التي قدمتها هي مع مخرجين آخرين، أبرزهم الراحل علاء الدين كوكش الذي قدّمها بدور بارز في مسلسله الشهير (حكاية حارة القصر) عام 1970، ثم أعطاها بطولة مسلسل (الأميرة الخضراء)، ضمن سلسلته التلفزيونية الشهيرة (تغريبة بني هلال) التي أُنتجت في تلفزيون دبي بين عامي (1978-1980)، ثم أعادها إلى دائرة الضوء بعد سنوات من الغياب في المسلسل التاريخي (الذئاب) الذي أنتجه التلفزيون السوري عام 1989، وفيه اجتمعت ثناء دبسي في أداء تنافسي قوي مع منى واصف، لتعيد ذكريات التنافس المسرحي بينهما… ثم قدمها في مسلسل (أبو كامل) الذي أنتج في جزأين بين عامي (1990- 1992) بدور زهرة المرأة التي تمثل القيم والأصالة في زمن السمسرة والخيانات، والذي أراده كاتب المسلسل فؤاد شربجي مدخلاً لقراءة مختلقة لتاريخ دمشق الاجتماعي، فجرت الكثير من الانتقادات حول المسلسل وشططه… لكن بقيت ثناء دبسي بعيدة عن هذه الانتقادات، شأنها شأن الكثير من الأدوار التي أدتها حتى في أعمال لم يُكتب لها النجاح أو القبول. فقد كانت السيدة ثناء قادرة من خلال أدائها الفني أن تقدم للجمهور مبررات قبولها بهذه الشخصية أو تلك، ومدى إخلاصها لها وإيمانها بها.. ولهذا حظيت بكثير من التقدير والثناء، ومن حسن حظها أنه كان لها من اسمها نصيب.
لقد جسدت ثناء دبسي وجوهاً مختلفة للمرأة القوية بلا صراخ، المتشبثة بالقيم بلا مزاودة، الحنونة دون إفراط أو بكائية ميلودرامية، كما رأينا في العديد من الأدوار، ومنها مسلسل (قلوب خضراء)، حيث يخيّم طيف الأم وحضورها القوي على الأسرة أيضاً في لحظات التأزم، وحالات الفرقة والشجار بين الأبناء، ليعطي لهؤلاء الأبناء درساً في إدراك معنى الحياة الأسرية وألفته.
من المعيب في زمن القص واللصق، أن تُنسى أدوار السيدة ثناء دبسي الهامة في المسرح والتلفزيون، وفي دراما الأبيض والأسود، وأن تُذكر أعمالها الأخيرة مع المخرجين الشباب كـ (غزلان في وادي الذئاب) و(زمن العار) مع رشا شربتجي و(أولاد القيمرية) مع سيف السبيعي… و(وراء الشمس) مع سمير حسين… في حين أن تاريخ ثناء دبسي الحقيقي مرتبط بأعمالها الريادية مع المخرج سليم قطاية، ثم أعمالها الهامة مع المخرج علاء الدين كوكش التي أتينا على ذكرها، أو أعمال تسعينيات القرن العشرين: (باب الحديد) إخراج رضوان شاهين (1996)، ومسلسل (قلوب خضراء) تأليف ريمون بطرس، وإخراج سليم صبري (1992)، وكان من الأعمال القليلة التي اشتغلت فيها مع زوجها سليم صبري إلى جانب مسلسل (رحلة المشتاق) الذي كتبه وأنتجه داود شيخاني، وصُوّر في أثينا عام 1977 ناهيك عن تشكيلة أدوارها الهامة مع المخرج هيثم حقي في (الثريا) تأليف نهاد سيريس (1997) و(سيرة آل الجلالي) تأليف خالد خليفة (1999) و(ذكريات الزمن القادم) 2003.
ضيفة شرف سينمائية
لثناء دبسي حضور سينمائي كضيفة شرف في أفلام هامة عدة، منها فيلم (المخدوعون) للمخرج المصري توفيق صالح، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 1974 عن قصة (ما تبقى لكم) لغسان كنفاني، والذي اعتبر ومازال أهم الأفلام السينمائية التي تناولت القضية الفلسطينية، ومنها أيضاً دورها في فيلم (اللجاة) للمخرج رياض شيا، والذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 1993… وأذكر أن السيدة ثناء كرمت في مهرجان دمشق السينمائي بسبب هذا الحضور الشرفي، فضجت الصالة بالتصفيق ووقف الحضور احتراما لها وهي تنزل من الصفوف الأخيرة في الصالة. ولم يكن هذا بسبب فرادة مسيرتها السينمائية بل هي محدودة رغم قوة حضورها في الأدوار القليلة التي قدمتها، لكنه كان بسبب ما تمثله من قيمة فنية، ظلت متوجة بالألق والنبل والبعد عن مواطن الشبهات والتفاهات.
آخر أعمال السيدة ثناء الفنية كان مسلسل (ترجمان الأشواق) للمخرج محمد عبد العزيز، الذي أُنتج عام 2019 وهو يتحدث عن ثلاثة أصدقاء اعتنقوا الفكر اليساري، وتفرقت بهم مسارات الحياة، فقادت بعضهم إلى السجون وجلبت عليه المتاعب. في إحدى المشاهد تظهر السيد ثناء بأداء الأم المتعبة، وهي ترثي لمصير ابنها الذي غررت به الكتب والأفكار الثورية باكراً، وجرته إلى عالم السياسة فجنت عليه. تأملتُ في أداء هذه الأم التي حرمتها السياسة (بمفهومها الاستبدادي والسلطوي القهري) من رؤية ابنتها يارا التي انحازت إلى الثورة، وهاجرت مع زوجها ابن حماة الفنان ماهر الصليبي بعيداً عن الأم، وبيت العائلة الدافئ في منطقة السبع بحرات الدمشقية، وعن الوطن. تُرى هل كانت تفكر السيدة ثناء بيارا، وهي تؤدي ذلك المشهد؟ هل كانت تدرك أن يارا التي تنشد العدل والحرية للمعتقلين والمفقودين، والعودة للغائبين، كانت خير مثال لإحساس الأم حين تبكي شوقاً وحنيناً؛ لرؤية أولادها الذين حُرمت منهم، ولإحساس الابنة حين تُحرم من أهلها في آن معاً.
لقد بكت السيدة ثناء في أحد حواراتها الإذاعية الأخيرة شوقاً لرؤية ابنتها يارا… ورحلت دون أن تراها.. ودون أن تخرج ابنتها التي حملت رسالتها الفنية والشخصية في الصدق والالتزام واحترام الذات في وداعها… لكنها في النهاية رحلت وهي تحظى بكامل الاحترام في وجدان السوريين الذين رأوا في السيدة ثناء صورة الأم التي لا تساوم ولا تتهاون، ولا يخونها قلبها الدافئ الحنون في أن تُصوّب البوصلة دائماً في الاتجاه الصحيح.