منطق التحليل نفسه، والعقلية نفسها
أكثر الأمور التي تُرعبني هذه الأيام هي القراءة المنقوصة للتاريخ؛ لأنّ الكثيرين منّا يمحونه، ويكتبونه، فيضلل وضوحه، ويغدو القرّاء (من غير المحكّمين للقراءة عقلاً) مشتتين بين اضطرابات النص والفتاوى. والمصيبة ألّا يقبلوا احتمالات الحساب أو مختلف الشروح… الأصل أن نقف وسطاً في التاريخ قريبه وبعيده، وأن نقرأه بكلتا العينين، وأولاً، ثم أولاً ما علينا، وتالياً ما على الآخرين، وهنا تجتمع الشجاعة والحكمة في القراءة والكتابة، ويكون التاريخ درساً نتعلم منه، وليس نكوصاً نعيش فيه.
أن ننكر أن عبد الناصر كان ديكتاتوراً هو مجافاة للحقيقة، لكنه امتلك كاريزما لم يحظَ بها أي ديكتاتور قبله، أو بعده، وجاء في مرحلة الفراغ السياسي السوري والعربي، والبحث في هويات وطنية (وهنا حديث آخر). دكتاتور وصل السلطة بانقلاب، لكن أن نحمّله مسؤولية ما بعده من الديكتاتوريات سنكون من الظالمين، لأن عسكرنا نحن السوريين من فتح شهية العسكر على الانقلابات، ومقدرة السيطرة على السياسة (حسني الزعيم آذار 1949، سامي الحنّاوي آب 1949، أديب الشيشكلي أكتوبر 1950) وتلك الانقلابات في جزء كبير منها هو نقل سوط الجلاد من ساعد إلى ساعد، وفي كل مرة يزداد الجلاد فناً وخبرة باستخدام سوطه، إلى أن وصلنا إلى خبرة ما بعدها خبرة. مشكلتنا أننا نُمسك واقعة تاريخية، ونبني عليها المواقف، وفق تجاربنا، وما نؤمن، وننسى التراكم.
الوحدة قامت على العواطف، ورغبة الشارع السوري وأحلامه العروبية التي فرضت على السياسيين المزاودة عليها، مع الضغوط السياسية والأمنية، وكلنا يذكر أطماع إسرائيل في مياه (الحمّة ووادي اليرموك) حيث كانت النية الإسرائيلية واضحة بالسيطرة عليها، وكلنا يذكر أن أول وفد توجّه سراً لمطالبة عبد الناصر بالوحدة كان من العسكريين، وتلاهم السياسيون، والمضحك المبكي أن كثيراً منهم أيّد الانفصال كأكرم الحوراني، وميشيل عفلق الذي أصدر بياناً أيد الانقلاب، وبعد أيام سحب البيان، وتنصّل منه، ونضيف أحلام عبد الناصر بزعامة الأمة (ولنكن منصفين لم يكن شعوره بالزعامة من فراغ، أو لأنه دكتاتور فقط).
أما معوقاتها، فكانت أولاً: تفاوت مستوى الغنى والفقر بين الشعبين (85% من السوريين طبقة وسطى، و15% بين أغنياء وفقراء، بينما عند المصريين 85% من الفقراء، وهذا الفقر كان سابقاً لوجود عبد الناصر، ولم يأتِ معه، فبنية المجتمع المصري من الوجهة الاقتصادية أشبه ما تكون بالهند – فقر تاريخي- فشلت كل محاولات التخلص منه).
وثانياً: تعامل العسكريون المصريون بغطرسة مع زملائهم السوريين، كناتج طبيعي لعراقة الجيش المصري وقدمه، من حيث التشكيل في المنطقة العربية، وهنا واقعة أذكرها للتوضيح: (شارك النقيب، في حينها، عبد الكريم الجندي بمسابقة لرماية المدفعية، وكان الأفضل فيها، لكن المشير عبد الحكيم عامر أصرّ أن يفوز ضابط مصري، فما كان من عبد الكريم – وكان متهوراً أرعن – إلا أن تهجّم على المشير ونال عقوبة شديدة، ولولا تدخل بعضهم لسُرّح من الجيش)، وعلينا ألا ننفي وجود نزعة وطنية لدى الطرفين، وإن كانت عند المصريين فرعونية أوضح، وعند السوريين ذات خلفية إثنية وطائفية مبطنة، فرغم أن واقعة الانفصال كان أغلب قادتها من الضباط الدمشقيين، لكن كان لها قبول ضمني، لدى أغلب العسكريين، ولم يعترضوا عندما كان رأس الحربة بالتنفيذ لواء الهجانة الذي قاده المقدم حيدر الكزبري، ومدير مكتب عبد الحكيم عامر، إلا أن غالبية بنية هذا اللواء من حيث التشكيل – الفرنسي الأصل – (صف ضباط وجنود كان من غير البدو، كما يتوهم بعضهم، ولم يتعدّل التشكيل إلا مع الفريق أمين الحافظ). هذه البنية كانت العامل الحاسم في نجاح الانقلاب، مما يدفعنا لليقين بأن قبول العسكريين كان لكل واحد منهم دوافع تختلف عن الآخر… كثيرة هي أسباب فشل الوحدة، وكما أعتقد أنني ذكرت الأهم.
أعود للمقالات موضوع قضية عددنا، وأتوقع أن بعضهم سيجدونني مُغرداً خارج السرب.
نعم، تورّط عبد الناصر في الموصل وكركوك، وفي القامشلي أيضاً، حين ألغى الجنسية السورية للأكراد الأتراك الذين فرّوا من القمع التركي، ومنحهم الإقامة والحماية فقط، فلم يكن على وفاق مع ورثة الأتاتوركية وأطماعها في الموصل وحلب، وهذا ليس حماية للعرب، فقد كانوا أيضاً أقلية في تلك المنطقة، وإنما حماية للأكثرية حينها (الآشورية الكلدانية السريانية).
نعم تورّط عبد الناصر في حرب اليمن ضد خصمه آل سعود، وحلفائهم في ذاك الوقت حوثيّ إيران اليوم، وعند هذه النقطة بالإضافة لهزيمة 67 أظن أن الكثيرين اطلعوا على الوثائق المُسربة من السفارة الأمريكية في عمان التي نشرتها صحيفة المحرر اللبنانية عام 1973 عن الرسائل المتبادلة بين الملك فيصل، والرئيس الأمريكي جونسون، حيث طُبع من الصحيفة ثلاث طبعات، وبيعت آلاف النسخ، وأدت إلى مقتل الصحفي الذي حصل عليها ونشرها، وخروج (وليد أبو ظهر) صاحب الصحيفة إلى فرنسا، وتأسيسه مجلة (الوطن العربي).
أقارن المقالات (ولا أسقطها، فالإسقاط خطأ) مع مقالات وتحليلات كثير من كتّاب الأعمدة الصحفية، ومحللي الفضائيات، والفيس بوك في أيامنا هذه لأرى إن كنّا تعلمنا درساً، وللأسف ما تعلمناه (وكأنك يا أبو زيد ما غزيت): منطق التحليل نفسه، والعقلية نفسها، وأحاول أن أجد سبباً لهذا الاستعصاء الفكري، فلا أجد إلا أحادية التفكير، بالاستناد إلى مرارة التجارب وقسوتها، والأهم مازلنا في فخ العقائد، وإن ادّعينا غير ذلك.
لنتذكر (منين جاني الوجع ده)، من منّا نسي هذه الجملة لعبد الناصر، وفي عزّ أيام الوحدة، والتي سرّبها عن عمد مدير الدعاية والأنباء في الإقليم الشمالي، وعضو مجلس الأمة حينها. عبد الناصر كان في حيرة من أمره كيف يحافظ على ديكتاتوريته وفي الوقت نفسه يُرضي السوريين… كلّ مَن تجاوز عمر السادسة والستين يذكر المدارس بين أعوام 1961و 1963 (لا دراسة ولا تدريس إلا بعودة الرئيس) (ناصر، ناصر، ناصر، الله كبير والله الناصر) مَن يذكر قاسيون حين أحرق شباب تقودهم السيدة الدمشقية سعاد ميرزا الحطب بتشكيل جملة (تحيا الوحدة). الأغلبية من أبناء سوريا عروبيون، وأنا أعني تماماً تلك الأغلبية التي تدفع اليوم ثمن وسطيتها بين (العروبة / الإسلام) والسورنة. كنت طفلاً، عندما وعيت على النشيد الذي فرضه عبد الناصر في المدارس بدلاً من النشيد الوطني (وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر)، واستمر الانفصاليون (عروبياً) على هذا النشيد في المدارس إلى أن (شهدوا 1962)، وكنت في بداية مراهقتي أيلول 1970بقرب السفارة المصرية، لأعرف كيف تنتحب المدن على فقيد غالٍ عليها، حتى وإن خاصمته.
من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاما على الانفصال- أيلول/ سبتمبر 2023