الرأي العام

الدولة كاحتيال شرعي: محاولة لتأسيس دولة ما بعد الاستبداد وتحريرها من وظيفتها التأديبية

إن الدولة التي تُولد من رحم الثورة لا بد أن تحمل جينات التغيير البنيوي

فارس العلي – العربي القديم

إن ما يُروّج له اليوم تحت مسمى الدولة السورية الجديدة لا يمكن النظر إليه بوصفه كيانًا وطنيًا مشروعًا، ما لم يُؤسَّس على قطيعة معرفية، سياسية، وأخلاقية حقيقية مع بنية النظام الاستبدادي الذي تم إسقاطه بفعل ثوري شعبي. المشروعية في السياقات الانتقالية لا تُمنح بحكم الفراغ، ولا تُكتسب بمجرد تغيّر الواجهة، بل تُنتزع عبر إعادة تعريف جذرية لمفهوم الدولة ذاتها، كعقد اجتماعي ناظم، لا كأداة احتكار للسلطة الرمزية والمادية.

الولادة الفعلية لدولة ما بعد الثورة تستلزم، بالضرورة، تفكيك الإرث الكولونيالي الداخلي للنظام السابق، لا إعادة تدويره في لغة مموّهة عن الاستمرارية المؤسسية أو الاستقرار المرحلي. فأي دولة ناشئة لا تُعيد بناء ذاتها على أساس تصور بنيوي للعدالة الانتقالية، يعيد الاعتبار للضحايا ويُخضع الجناة للمساءلة، ستكون قد خانت منطق الثورة ذاته، وارتكبت خيانة ثانية في حق التاريخ.

العدالة، في هذا السياق، ليست مكونًا إجرائيًا فحسب، بل البنية التحتية الأخلاقية والرمزية لأي مشروع سياسي جديد. غيابها يعني نفي المعنى الجوهري لفعل التحرر ذاته. فدولة بلا عدالة انتقالية تُنتج ذاتها كجهاز قمع مؤجل، كاحتكار ناعم للشرعية، لا كتحول سيادي حقيقي.

أما الهوية الوطنية الجامعة، فهي ليست نتاج توازنات فوقية أو تسويات ظرفية، بل نتيجة هندسة اجتماعية عميقة تُعيد بناء المواطنة كهوية كونية متجاوزة للانتماءات الأولية، لا كامتياز ممنوح أو ولاء مفروض. وكل دولة لا تُعيد تعريف الوطنية خارج الأيديولوجيا القومية أو الطائفية، ستُعيد إنتاج الانقسام الأهلي تحت مسميات أكثر خداعًا.

من هنا، فإن أي محاولة لتأسيس دولة ما بعد الاستبداد، دون تفكيك البُنى الأمنية الزبائنية، ودون تحرير الدولة من وظيفتها التأديبية، ودون صياغة عقد مدني جديد يرتكز على الندية القانونية والمشاركة الفعلية، ستؤول لا محالة إلى حالة استبداد ناعم، أكثر تجذّرًا وأشدّ خطرًا، لأنها مموّهة بلغة التحديث، ومُعزّزة بخطاب كاذب عن المصالحة والوطن الجامع.

الدولة بوصفها جهازًا سياديًا يجب أن تكون انعكاسًا لإرادة شعبية حقيقية، لا مجرد وعاء لاستنساخ سلطات استبدادية مُقنّعة. إن جوهر السيادة الحديثة ليس في السيطرة على الأرض وحسب، بل في ضمان الكرامة الإنسانية، وتكريس العدالة الاجتماعية، وإعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس شراكة حقيقية. وأي دولة تتنكر لهذه المبادئ ستظل مشروعًا هشًا، محكومًا بالتآكل الذاتي أو الانفجار.

في النهاية، فإن الدولة التي تُولد من رحم الثورة لا بد أن تحمل جينات التغيير البنيوي. وإلا، فإن كل حديث عن شرعية جديدة سيبقى مجرد خطاب أجوف، يُخفي تحت قشرته بذور الإقصاء والقمع في ثوب مختلف.

زر الذهاب إلى الأعلى