العربي الآن

ماذا يطبخ الدّكتور قدري جميل في قدوره وطناجره؟

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم

على هامش صفحات كتاب “الأزمة السّوريّة الجذور والآفاق” الصّادر في شكل حوار أجراه رفيقه في حزب الإرادة الشّعبية مهند دليقان

في المثل من غربل النّاس نخلوه. والنّاس في العموم تريد من السّياسيّ أنْ يتحدّث بلسانها-عن تلك التّفاصيل الصّغيرة التي تُنغّص عيشها- لا بلسان حال جريدته أو حزبه أو أيدولوجيته، وخاصّة في أيام الشّدائد والمحن، بمعنى أنْ تكون إنساناً تشاركها شظف العيش وفقدان الأمن والأمان. لا يهمها كثيراً ماذا تطبخ أنتَ في قدورك حتى لو كان بحصاً، وهل يُطبخ البحص؟ المهم ماذا تأكل هي في صحونها. من المعروف بأنّ الجماهير العريضة تأكل في الأحلام ما تشاء، أما في الواقع فتأكل ممّا طبختْ في قدورها، فأنت لا تأكل سمكاً مشوياً من قدرك الذي وضعت فيه بيضاً مسلوقاً. وكذلك في المثل: تحصد ما تزرع، لا تحصد قمحاً إذا زرعت زيواناً. ولا تحصد سلاماً إذا زرعت ارهاباً. ومن يطبخ البحص ينام بلا عشاء. يروون في كتب التراث بأنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقف ذات عشيّة بباب أرملة تطبخ البحص، فخارت قواه ولم تعد قدماه تحملانه من هول ما رأى. وكان قد خرج مع خادمه أسلم في ليلة حالكة، كي يتفقّد أحوال الرعيّة، فاقترب من الأرملة وسألها عمّا تطبخ في قدرها، فأخبرته بأنها تطبخ البحص في الماء، وهي لا تعرف بأنّه أمير المؤمنين، بعد أن أشتدّ الجوع بأطفالها، ولم تجد ما تطعمهم به، لذلك أوهمتهم بأنها تعد لهم الطعام في القدر حتى يُعجّل الله بنومهم، فيستريحوا بعد أن أَمَضَّهُم الجوع. فأسرع عمر إلى بيت المال وحمل على ظهره مؤونة وكيس دقيق، وقام يخدمها بنفسه تلك الليلة، فطبخ عنها الطعام، وطلب أن تحتفظ بالمؤونة لتلبي بها حاجتها. فقالت له: أنت أحق بالخلافة من عمر.  

أين نحن من أولئك القوم الأبرار الذين صنعوا حضارةً عملاقة استمرّت لقرون؟ نعم، كانوا إذا وُلّوا عدلوا، وإذا ملكوا أنعموا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سُئلوا أجابوا، وإذا افتقروا صبروا، وإذا نالوا شكروا. وكان لهم مع الخلق معاملةٌ جميلة وقدر جميل. وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشّر، وتنافسوا في المعروف، لقد اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والعدل.

وعليك الانتباه دائماً إلى أنكَ تخاطب النّاس، كلّ النّاس، الكبير والصّغير و “المقمّط” في السّرير، المرأة والرّجل، المتعلم والأميّ، الجاهل والعالم، بائع المشبّك والصّيدليّ، دكتور الجامعة وصانع الأحذية. وعليك أنْ تُصغي لما يقول هؤلاء عن “مطبخك السّياسيّ” وعمّا تطبخ فيه. فهم يعرفون تماماً هل طبيخك من بحص وماء أم من شحم ولحم.

قرأتُ كتاب الدّكتور قدري جميل “الأزمة السوريّة” الصّادر في شكل حوار أجراه رفيقه في حزب الإرادة الشّعبية مهند دليقان. طُبع الكتاب في دار الفارابي-لبنان- بيروت-الطبعة الأولى آذار 2019. وصدرت الترجمة الرّوسيّة عام 2020. جاء الكتاب في 280 صفحة من القطع المتوسط، مقسّم إلى ثلاثة فصول هي (الجذور، الانفجار، الآفاق)، إضافة إلى قسم الملحقات الذي يحوي عدّة وثائق أصدرتها “اللّجنة الوطنية لوحدة الشّيوعيّين السّوريّين” خلال العقد الأوّل من القرن الحاليّ، والّتي تحوّلت لاحقاً إلى حزب الإرادة الشّعبية، إضافة إلى مقتطفات من وثائق تاريخيّة أقدم، من بينها مقال خالد بكداش “سوريّة على الطّريق الجديدة” المنشور عام 1965 في مجلة قضايا السّلم والاشتراكيّة. ومقتطف من خطاب يوسف ستالين في مؤتمر الحزب الشّيوعيّ السوفييتيّ التّاسع عشر عام 1952. لماذا خالد بكداش ويوسف ستالين في هذا الوقت؟

تتوقّع مني الخوض في غمار ما جاء في الكتاب، كلا يا سيدي لن أفعل، بحثتُ في الإنترنيت عن دراسة أو مادة جادة ناقشت مضمون الكتاب فلم أجد. استغربت الأمر، ولكنّني وجدتُ تعريفاً بسيطاً عن الكتاب في جريدة “قاسيون” السّوريّة التّي تصدر عن حزب الإرادة الشعبية، ورابط تحميل الكتاب إلكترونياً على موقع الجريدة. حمّلت الكاتب وبدأتُ ارساله عبر البريد الإلكترونيّ وخدمة الدردشة والرسائل في الفيسبوك إلى رفاقي وأصدقائي في مختلف بقاع الأرض من مونتريال في كندا إلى سيدني في استراليا. كان الجواب لا نريد الحوار مع الدّكتور في الاقتصاد قدري جميل “حلّ عن سمانا” فكّر فقط بما فعله مع رفيق دربه الصحفيّ النبيل “جهاد أسعد محمد” سكرتير تحرير جريدة قاسيون لتدرك جيداً لماذا لا نريد مناقشة كتابه.

ستجد في الكتاب بأنّ الدّكتور قدري جميل أمين عام حزب الإرادة الشّعبية له “مَجمعه” الخاص من الأفكار والطّروحات ووجهات النّظر والمعادلات الاقتصاديّة والفلسفيّة في الحياة من خلال تشبهه بالماركسيّة-اللينينيّة-إنّ التشبّه بالكرام حميد- التّي يعتنقها مذهباً وقدوة في العمل على حدّ زعمه. وقد تجسّد ذلك واضحاً صريحاً في حزب الإرادة الشّعبية الذي يقوده. تكرّرت الاستشهادات من لينين في حواره، فهو في موسكو على كلّ حال. وهذا ليس جديداً فقد كان بليخانوف ولينين وتروتسكي وستالين وخروتشوف وخالد بكداش وميخائيل غورباتشوف وفيدل كاسترو وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ وهو شي منه وأرنستو تشي جيفارا وكيم جون أون، كلّ واحد منهم له وجهة نظر خاصة وزاوية رؤية سار على هديها لذلك اختلفت دروبهم، والدروب في العادة تصنعها الأقدام، لذلك اختلفت دروب البشر. ولك كلّ الحرّيّة في أنْ تختار درب حياتك ولكن عندما تتقاطع الدروب عليك أنْ تذهب إلى فولتير في قوله: “قد أختلف معك في الرأي، ولكنّني على استعداد لأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك”. وأكيد الدّكتور قدري جميل له دربه الخاص الذي سار عليه في حياته فأوصله إلى موسكو ومن حقه الدفاع عن “مخرجات” هذا الدرب.

بعد تصفّح الكتاب، ومن ثمّ القراءة المتأنية لفصوله ستجد بأنّ مجمل الفقرات والجُمل التي تؤلف أفكار الكتاب تحتاج إلى شروحات وتفاسير كثيرة على متن النّصّ وهذا يحتاج إلى وقت طويل وصفحات كثيرة في تقريظ كتاب الحوار في موسكو، ولكنني سأكتفي بتعليقات على هوامش صفحاته.

خذ مثلاً الكلمات الأولى التّي جاءت في صدر الكتاب، ولا نعلم من قالها، محرّر الكتاب أم الدّكتور قدري جميل:(لا توجد حقيقية بسيطة، الحقيقة دائماً مركّبة، وبلوغها نضال شاق ومستمر. لكنّها الطّريقة الوحيدة لتغير الواقع تغيّراً جذريّاً، لأنّه “ينتصر في نهاية المطاف، من ينتصر معرفيّاً”. في هذا الكتاب لن يجد القارئ الصّورة النمطية للنظام السّوريّ، ولا الصّورة النمطيّة للمعارضة السّوريّة، ولا أيّاً من الاصطفافات الدوليّة والإقليميّة. بكلمة واحدة: لن يجد قارئ الكتاب أيّاً من الحقائق البسيطة، لأنّ لا وجود لحقائق بسيطة)

تعليق بسيط: “الحقيقة مركبة وبلوغها نضال شاق ومستمر لكنها الطّريقة الوحيدة لتغير الواقع تغيّراً جذريّاً” أقول: رحم الله عميد الأدب العربيّ الدّكتور طه حسين فقد عنون أحد مقالاته: “يوناني فلا يُقرأ” في ستينات القرن العشرين. ماذا نفهم من الجملة أعلاه؟ أعربيٌّ هذا الكلام أم سريانيّ؟ أيمكن أن يقرأه الرّجل المثقف صاحب الثقافة العميقة، أو صاحب الثقافة المتوسطة، فيخرج منه بطائل ويحصّل منه شيئاً يمكن الاكتفاء به للوقوف عنده للتأمل والمناقشة؟

فاتحة الكتاب تحتاج جهداً جهيداً لفهمها، تستعصي على الفهم، هذا إنْ فُهمت. أعد قراءة النّصّ لعلك تفهم. أعدتُ، لم أفهم، أين العلّة؟ العلّة في الفكرة. ماذا تريد أنْ تقول؟ ها هي اللّغة العربيّة أمامك وسيلة ممتازة لعرض أفكارك، تستطيع تحميل ما تشاء من أفكار على ظهر اللّغة العربيّة. ولكن هذا الكلام الذي تعرضه في فاتحة الكتاب ترجمة لفكر أجنبيّ يقود النّاس نحو آمال كاذبة. ما العلاقة بين الحقيقة البسيطة والحقيقية المركبة وبين الانتصار المعرفي في “الأزمة” السّوريّة. نعم أنْ تصل إلى حقيقة ما يجرى في الواقع السّوريّ يحتاج الأمر إلى عمل شاق وجهد حثيث وتحتاج إلى تلك الجدلية المعقدة بين الفكر والواقع المعاش والوجدان.

بلا وجدان لا تستطيع قراءة ما يجري في الواقع لأنّ الإشكالية الحقيقية هي النّمط النّظري الذي تُطرح من خلاله مشكلة واقعيّة، وليست المشكلة الواقعيّة نفسها. أو بالأحرى وبشكل أدق هي الطّريقة التي يحوّل فيها الفكر الواقع الاجتماعيّ إلى مشكلات، أي قضايا يمكن تحديدها وتقديم إجابات وحلول لها.

لا عيب في الحقيقة البسيطة أو في الحقيقة المركّبة واعتقد من وجهة نظر شخصيّة بأنّ الحقيقة البسيطة هي ما يفهمه الجمهور، فلماذا نثقل عليه بتراكيب معقدة؟ لماذا لا نختار أيسر السّبل وسيفهم الجمهور بكلّ تأكيد؟ لماذا نختار المسالك الوعرة لنصل إلى الهدف، وبالتالي يضيع القارئ في شعاب لا تصل على حقيقة مرضية؟ والحكاية قديمة: يُروى أنّ أبا سعيد المكفوف مؤدب ولد عبد الله بن طاهر قال: يا حبيب لم لا تقول من الشّعر ما يُفهم؟ فأجاب حبيب: وأنت يا أبا سعيد لم لا تفهم من الشّعر ما يقال؟ فعُدّ ذلك من محاسن أجوبة حبيب بن أوس الطّائي المُكنى بأبي تمام. وهو القائل: السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ/في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ.

 الحقائق فيها البسيط وفيها المركّب-بديهة علميّة لا تحتاج إلى برهان- وعندما نقول لا توجد حقيقة بسيطة في “الأزمة” السّوريّة، فهل هذه حقيقة بسيطة أم حقيقة مركّبة؟ ألا يمكن أنْ تكون الحقيقة المركّبة هي مجموع حقائق بسيطة، كما ترى يوجد حقيقة بسيطة، ونفيها لا يفيد. ويمكن للإنسان تأليف كتاب فلسفة في وجود الحقيقة البسيطة أو عدم وجودها. لو قلنا مثلاً: إنْ زرعت إرهاباً لن تحصد سلاماً، ستحصد إرهاباً بالتأكيد. هل هذه حقيقة بسيطة أم حقيقة مركّبة؟

الدّكتور قدري جميل في حواره في موسكو ينضح من إناء المفهومات البسيطة والمفهومات المركّبة. لذلك من أصعب الأمور الجدل معه حول ما يطرح من وجهات نظر من موسكو، فهو يعود إلى خالد بكداش ويوسف ستالين ويحاول دمجهما في الواقع المعاش اليوم، لماذا الآن؟ لم أفهم قصده. المثل يقول: “بعيد عن العين بعيد عن القلب” وعلى ما أظنّ فإن الحوار مع الدّكتور قدري جميل في موسكو يسير في هذا المجرى.

افتقد الكتاب تعريفاً ولو مختصراً عن سيرة حياة الدّكتور قدري جميل وكان هذا -في ظنّي- من الضّرورة بمكان، لماذا؟ أقول لك: كي لا يذهب القارئ إلى “منصات” التواصل الاجتماعي ومحركات البحث-كما فعلت أنا- ليجد تشكيلة من المعلومات جمعها من “هب ودب” ولا تطمئن إلى الكثير من محتوياتها، فتجد فيها أنّ الدّكتور قدري جميل يملك الملايين من الدولارات التي حصل عليها من تجارة السّلاح في الأزمة السّوريّة التّي يتحدث عنها وهو الذي حرّض الرّوس ليتدخلوا عسكرياً في سوريّة وصاحب مؤسسات تجارية ضخمة مع الرّوس يدفع منها رواتب موظفيه في جريدة قاسيون وفي حزب الإرادة الشعبية. وله علاقات واسعة مع الأجهزة الأمنيّة الرّوسيّة والمخابرات السّوريّة ويعزم في سهراته في القصر الذي يقيم فيه في موسكو كبار المسؤولين والضّباط الرّوس بمن فيهم وزير الدّفاع الروسيّ. وهنا نسأل هل هذه حقيقة بسيطة أم مركّبة، ركّبها أصحاب الشّر والنّوايا السيئة؟

كانت سيرة مختصرة حقيقية عن حياته وثروته مرفقة بالكتاب كفيلة بتجنب ذلك كله. هل يخجل الدّكتور قدري جميل من عرض سيرته الذاتية فيمعن في تعميتها. أهو مع المثل القائل: الكلاب تنبح والقافلة تسير. ولكن في هذا الفضاء المفتوح لا تستطع إخفاء ما تريد وتظهر ما تريد. انتهى الزمن الذي كان فيه السّياسيّ ثعلباً، ينفخ بطنه في وسط الطّريق حتّى يظهر ميتاً فتنجح حيلته تلك فيفلت من الأعداء ويقتنص الطّريدة. هذه حيلة قديمة من أيام “كليلة ودمنة” لا تنفع اليوم. لذلك لا بد من العودة إلى فكرة غسان كنفاني: كل الحقيقة للجماهير. وهذه حقيقة بسيطة مش مركبة. ولا يمكننا حجب الشمس بغربال.

لفت نظري كسوريّ عاش ويعيش الأحداث التّي دار حوار الدّكتور قدري جميل حولها في موسكو حيث راوغها مرّة وحاول اقتحامها مرّة ثانية. والسّؤال الأصعب هل كان الدّكتور قدري جميل نبيّاً شيوعيّاً صادقاً في فيما يقول من وجهات نظر في تشخيص “الأزمة” السّوريّة ومجرياتها المعقدة؟ بمعنى هل نثق بكلامه الذي اعتمد فيه على الماركسيّة-اللينينيّة في تحليل “الأزمة” السّوريّة كما يقول؟ أم أنه ككلّ سياسيّ يُراوغ و”يلف ويدور” من أجل مصالح سياسيّة واقتصاديّة وأيدولوجيّة وحزبيّة وشخصيّة فيختلط الحصيد على البيدر ولا تعرف القمح من الزيوان؟

قد يرتاح بعضهم لما يطرحه الدّكتور قدري جميل علينا في القضايا السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وقد يجد من يشاطره هذه الطرح. أنا في العموم لا أرتاح للمعادلات التي يطرح نفسه من خلالها الدّكتور قدري جميل ومن خلال ما يُنشر في جريدة قاسيون (وقد كتبت فيها ما بين عامي 2012 – 2018 أكثر من خمسين مقالاً) ومن خلال بيانات حزب “الإرادة الشّعبية” لقضايانا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المحليّة والعربيّة والعالميّة. يرى نفسه أفهم في السّياسة والاقتصاد من ديغول وهذا شأنه “يصطفل” ولكن أرى أنها جعجعة رحى تدور على محورها فارغة من الحَبّ، وقد انفض الكثير من الرفاق من حوله وذهبوا في اتجاهات مختلفة وبقي الدّكتور قدري جميل صامداً في معركته التي يقودها مع رفاقه الروس من موسكو.

أعتقد أننا لن نحصل على طحين من موسكو، نعجنه بالملح والماء والخميرة، ثمّ نتركه ليستريح، ثمّ نوقد التّنور، ثمّ نرقّ العجين ونخبز، ونُقدم خبزاً للمواطن السّوريّ التّعبان. أليست بعيدة عن أفواه السّوريّين تلك القدور والطناجر التي يطبخ فيها “بحصاً” وأين يا مرحوم البي، في موسكو. هل هي متاجرة رابحة هذه التي يُمعن فيها خطابه من موسكو للمواجع التي لا تنتهي ولعذابات المسحوقين التي تتنامى، رغم “أزمة” على حد تعبيره، انتظم فيها الوطن والمواطن، وحّدت عذابات الجميع، فتمّ تهميشها واتهامها بالإرهاب من أجل مصالح حفنة من المنتفعين.

لي ملحوظة بسيطة حول شعار “كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار” والذي يستعمله الدّكتور قدري جميل كثيراً في مختلف المناسبات. كيف يتجسد ذلك وقد تُرك الصّحفيّ اللّامع “جهاد أسعد محمد” في السجن يواجه مصيره. عمل جهاد سكرتيراً لتحرير جريدة قاسيون مدة خمس سنوات، ثمّ حين اعتقل في الشارع العام تركه من يوم اعتقاله في ١٠ آب ٢٠١٣، هذا إن كان “جهاد أسعد محمد” على قيد الحياة اليوم. هل هذه حقيقة مركّبة؟ تقول زوجته “أمل السلامات” وهي ناشطة في مجال العمل المدنيّ والإنسانيّ: يختصر جهاد سبب حالته تلك بكلمة واحدة “الخذلان”. الخذلان تحديداً من تياره السّياسيّ “حزب الإرادة الشّعبية” الممثل بقدري جميل وبعض الرفاق الحزبيين، فهم اصطفّوا معاً في خندق واحد، ضد آلاف مؤلفة من الجموع التي انطلقت في ساحات وشوارع المدن السّوريّة، والتّي التحق بها جهاد، متهمين سلوكهم وسلوكه بالعشوائيّ المجرد من التفكير السّياسيّ، وحين أصرّ وأمعن جهاد في وقوفه مع الجماهير المنتفضة، اتهموه بـالطّائفيّة، بالعائد لا شعوريّاً إلى “سنيته”.

تقول أمل:

مشدوهاً أخبرني بالتّهمة العجيبة. صمتْ طويلاً وكعادته يتخذ قراراته المصيريّة كلها حين يصمت، وسألني:

هل تقبلين بأن يكون راتبك هو دخلنا الوحيد؟

ماذا تقصد؟

سأترك العمل في جريدة قاسيون.

هل ستكون أفضل حالاً؟

نعم.

فليكن إذاً.

تسع سنوات أمضاها جهاد في مكاتب جريدة قاسيون النّاطق الإعلاميّ لحزب الإرادة الشّعبية، قضى فيها وقتاً أكثر من ذلك الذي أمضاه في بيت أهله حين كان عازباً، وحين تزوج. انتقل -بجهد وكدح ومثابرة- من محرّر بسيط في الجريدة، إلى مدير تحريرها، ثم ليفترق عنها في أذار 2012 بصفته رئيساً لتحريرها، بعد أن يئس من إقناع كادرها بأنّ ما يحصل في سوريّة ضرورة حتميّة وتاريخيّة. على مفترق طرق كان يقف، حسم أمره، تحرّر من الخذلان، من اليأس، وارتحل سالكاً طريق “الثورة”.

 وأنا على يقين أن “جهاد أسعد محمد” كان صادقاً في تطلعاته تلك. يا ليتني كنتُ أعرف “جهاد أسعد محمد” فانا لم ألتق به في حياتي تعرّفت على حكايته بعد أن صار سجيناً، فكَّ الله أسره وأسرنا جميعاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى