حسن النيفي في ديوانه (رماد السنين): تجربة شعرية نادرة في أدب السجون
علي صالح الجاسم – العربي القديم
لعله ليس من النافل القول إن الإبداع عموماً والشعر بشكل خاص هو نتاج الروح المفعمة بحب الحياة، هذه الروح التي لا يمكن سجنها مثل الجسد بين أربعة جدران سميكة موصودة بأبواب حديدية تحرسها كائنات بشرية مسعورة.
وإذا ما أردنا النظر بعين فاحصة إلى أدب السجون، فسنجد أن الفنون السردية كالقصة القصيرة والرواية بشكل أوسع قد أخذت حيزاً جيداً في هذا الجانب أكثر من الشعر، ذلك أن الأخير له نواميسه وقوانينه التي ربما تحول دون إيصال الفكرة بشكل واضح وجلي إلى القارئ؛ لأنه في الغالب يُلبس لغته عباءة المجاز، فلا يصرّح بشكل مباشر بالذي يريد، ذلك أن الشعر لا يكون شعراً حقيقياً إلّا إذا سلك طريق الإيحاء والإيماء، إذ هو ينقل إحساسك بما في ذاتك وبما حولك دون التصريح، فإن صرّح وباشر بالقول وجاهر وقرّر، فإنه حينئذٍ يكون قد تخلّى عن أهم سماته أو خواصه النوعية، وأعني التخلي عن الجسور الجمالية التي يبنيها الشاعر بينه وبين القارئ.
إن ديوان (رماد السنين) للشاعر السوري حسن النيفي والمعتقل السابق في سجن تدمر السيء الصيت… يعدّ من الدواوين الشعرية القليلة التي تنتمي إلى أدب السجون، فقصائده كلها هي بعض مما استطاع الشاعر استعادته من ذاكرته بعد خروجه من السجن، إذ يؤكد شاعرنا النيفي ذاته في مقدمة الطبعة الثانية لرماد السنين أنَّ: “ولادة هذه القصائد كانت ضمن شروط استثنائية، أي أنها ولدت في سنوات الاعتقال التي دامت خمس عشرة سنة (2001-1986)، بل هي على وجه التحديد كانت من نتاج السنوات الست التي أمضيتُها في سجن تدمر الصحراوي، حيث لا قلم ولا ورق، ولا أي ٍ من مقوّمات الكتابة، وإنما تنضح القصائد من روحك، لتسكن ذاكرتك، دون المرور على وسائل التوثيق الأخرى، وقد أتاح القدر لهذه القصائد أن تعبر أسوار السجن – أيضاً – وهي تتكوّر مختبئةً في تلافيف الذاكرة. واليوم، إذ أنظر إلى تلك القصائد، فلا أرى فيها سوى سجلٍّ لتلك الأيام بكل تجلياتها النفسية والسياسية والإنسانية التي لم تعد تخصّني وحدي فحسب، بل تخص جميع الذين عاشوا وكابدوا تلك المرحلة، كما أنها من المفترض أن تخص الأجيال الحالية والقادمة، باعتبارها شاهداً إبداعياً، ووثيقة فنية تروي شيئاً من تفاصيل بسالة النفس البشرية حين تقاوم عوامل الفناء والإبادة في السجن”.
إن السجن عند الشاعر النيفي هو سجن لجسده لا لروحه، فهذه الروح تسبح في المدى وهو مشرعٌ يدَه، وقلبه يحمل نور الضحى ليمحو به ظلام سجنه متحدّياً السّجّان بنشيده الغاضب المزبد في ضميره، فها هو يقول:
جئت لــــو تدرين مـــن أي مدى
مشـرعــاً فــــي الأفـــق قلباً ويدا
حاملاً وهج الضّحى فـي أضلعي
ونشيداً فــــي ضميري مزبــــــدا
لعل قسوة السجن وضراوة آلامه لم تستطع يوماً ان تسلب الشاعر إحساسه بآدميته، كما لم تستطع ان تنزع حبّه وتعلقه بالحياة والاستمرار في نسج آمال مشرقة في واقع دامس:
عندي عرائــــــش أحـــــــزان معلقة
في واحة النفس، والذكـــرى عناقيدُ
أطارح الشوق من عمري ويطرحني
وعــــــدٌ بناصية الأيّــــــــــام معقود
يقول الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف في كتابه (ما الشعر العظيم):
“فالشعر قبل سواه من سائر الفنون، هو ما يوازن بين أنفاسنا وأنفاس الكون الذي يتنفس من حولنا بجوّانيته الخاصة، والشعر قبل سواه هو الأقدر على التعبير عن حياة الوجدان الداخلية بما هي روح صرف يختلج ويتماوج، وتعوم فيه شتى لونيات الشعور وجزئياته”
لقد استطاع الشاعر النيفي أن يوازن حقاً بين أنفاسه داخل المعتقل وبين أنفاس الكون خارجه، فهو ذلك الطائر السجين في قفصه، لكنه يحلم بالحرية وينشد لها ويتفاءل بغدٍ أفضل:
غـداً أيصبح بــــــوح الروح أغنيةً
ويستحيل عـــــــذابـــي لـذّةً وجنى؟
كم مـن صباحٍ تداعى بالرّؤى عبقٍ
خبّأت في نفحه ذكرى وبعضَ منى
وبما أن الأدب عموماً والشعر خصوصاً هو إعادة لخلق الواقع، أو هو قراءة الواقع جمالياً حسب تعبير الشاعر والناقد الدكتور سعد الدين كليب، فإن الشاعر النيفي يقرأ الواقع الأليم الذي يعيشه وطنه المسلوب بعين المبصر العالم بالأشياء التي لا تفارق ماهيتها مهما حاول أصحابها تغطيتها بطلاء الزور والبهتان والكذب، يقول مصوّراً مسرحية التوريث سنة 2000:
فاهنأ، حظيت بأحـــزانــــــي، وأترفهـــــا
جـــرحٌ يعطّر مــــــن أطيابـــــــــه الوطنا
أكلّمـــــا عصفت ريــــــــــــحٌ بطــــــاغيةٍ
شــــــاد الرّعــــــاع لــــه مــن نتنه وثنا؟!
لا يخصب الطيب في الحرث الخبيث ولن
يزجـــــي القبيــح إليـــــكَ الطّيّبَ الحسنــا
قـــــــد يعذب الذّل فـــــي نفس الذّليل كما
يستعذب الحـرُّ دون الكبريــــــــــاء ضنى
إن اعتقالاً دام خمس عشرة سنة كان كفيلاً بأن يحرم الشاعر لذة اجتماع العائلة والأنس بقربهم والتمرّغ بحنان الأم الذي تعجز عن وصفه كل لغات الدنيا، فقد كان الشاعر مدة اعتقاله يأمل أن يخرج ويجد والديه على قيد الحياة، لكن القدر أبى ذلك، يقول مخاطباً أمه بقصيدة ربما كانت من أجمل قصائد السجون، ليس لما تنطوي عليه من نبرة مفعمة بالمشاعر الملتهبة فحسب، بل لأن تلك المشاعر والأحاسيس وكل ما ينضح في الروح قد أشاده النيفي عبر بناء فني باذخ في الجمال، إلى درجة يتساءل فيها المرء، كيف وجدت هذه العواطف العارمة تجلياتها الفنية بهذه اللغة الأنيقة وبهذه الصور التي تنسرب إلى النفوس دون استئذان:
أمّــــــاه يا وله الطفولة والهدى
يا رعشة الإيمـــان في الأرواحِ
يــا دمعة قدسـيّةً تهمي علــــــى
روحــــي فتطفح بالشـذا أقداحي
أهــوَ الحنينُ بمقلتيك تـــلاطمتْ
أمواجُــه، فتلاطمت أتـــــراحي؟
فتهبّ أمواج الصّبابة فـــي دمي
وأروح بين توجّـــسٍ وجمـــــاح
أسرابُ آمـــالي وصرحُ فجائعي
فلأيّها أبدي الهوى يـــا صــــاح؟
أضناكِ أنْ طال النوى فتطايرتْ
شهبُ الأسـى مــن قلبكِ النضّاح
أهوَ الترقّبُ خلفَ إبحـــار المنى
أم عــودة الصّــاري بلا مـــلّاح؟
ينساب همسكِ فـــي دمائي مثلما
ينساب في الظلماء بوح جراحي
ثم سرعان ما يخفت صوت المشاعر، ويخمد لهيب الروح قليلاً، حين يؤكد الشاعر لأمه أن معاناته في السجن ليست شخصية الطابع، بل هي معاناة شعب يرزح تحت نير التسلّط والظلم:
أنا ما شكوت القيد ضاق بمعصمي
مــــا دام ذلُّ النفس دون ســـراحي
يشقيكِ أن تُسبَى العقـــــول وتعتلي
هــــــامَ الرّجــــــال هراوةُ السفاحِ
وتُســــــاقُ أسراب النسور كسيحةً
مثل النّعــــاج إلــــــى يــــد الذبّاحِ
ولعله من البديهي التسليم بعجز مقالة صغيرة محدودة عن الإلمام بما طرحه الشاعر من أفكار حول السجن وأحلام الحرية في ديوانه رماد السنين .. إلا أنه يمكن الإشارة من خلال ما سبق إلى قدرة الشاعر حسن النيفي على الولوج إلى أعماق الروح ليستخرج منها اللآلئ الثمينة التي تبهر الأبصار بضيائها، وعلى القارئ الكريم إن أراد الاستزادة العودة إلى الديوان ليقبض بنفسه على مكامن الجمال فيه.
يمكن التأكيد على أن أدب السجون استطاع وبشكل لافت نقل الصورة الحقيقية عما يحدث داخلها من انتهاكات لإنسانية الإنسان، ولعل فن الرواية كان الأقدر في هذا المضمار كونه يتميز بخصوصية تميزه عن الفنون الأخرى كالشعر، لكن الشاعر النيفي في ديوانه رماد السنين استطاع أن يضع بصمته الخاصة وبجدارة في هذا المضمار ليكون ديوانه هذا أحد أهم الدواوين الشعرية في أدب السجون، بل وليكون بذلك للشعر السوري المعاصر كلمته البارزة في هذا الأدب.
- رماد السنين الطبعة الأولى عام 2004 – دار الوعي العربي – حلب – سورية،
- الطبعة الثانية عن دار الملتقى عام 2020 – تركيا.