العربي الآن

لا ميراث للرصاص: الدولة الجديدة بين الديون البغيضة وحق التعويض

العدالة القانونية والسياسية في وجه الديون والجرائم الروسية والإيرانية في سوريا

عدي شيخ صالح * العربي القديم

بعد أكثر من عقد على الحرب السورية، تقف الدولة السورية الوليدة – القادمة من رحم التضحيات والدماء – أمام مفارقة تاريخية صارخة: القوى التي أمعنت في قتل السوريين وتدمير مدنهم ومؤسساتهم، تطالب اليوم بـ”حقوقها المالية” عن ديون ترتبت لتوريد سلاحٍ كان يُستخدم لسحق السوريين، بل وتطالب بالاحتفاظ بقواعد عسكرية أُنشئت في زمن التبعية والاستبداد.

فهل يحق لهؤلاء فعلاً المطالبة بالديون؟ وهل تملك سوريا المستقبل أدوات قانونية لإلغاء هذه الالتزامات؟ وهل لنا – نحن الضحايا – أن نطالب بالتعويضات عمّن دمّر بلدنا؟ الجواب: نعم، وبقوة القانون، والتاريخ، وشرعية المظلومية.

أولاً: لا شرعية للديون البغيضة

في القانون الدولي، توجد قاعدة راسخة تُعرف بـ”نظرية الديون البغيضة تنص على أن:

 “الديون التي تعاقدت عليها حكومة مستبدة لا تمثل شعبها، وصُرفت ضد مصلحته أو لقتله وسحقه، فهي ديون غير شرعية، ولا تُلزم الدولة الجديدة.”

هذه القاعدة طبقتها دول كثيرة مثل:

  • العراق بعد 2003، حين سقطت أغلب ديون صدام حسين،
  • ودول أفريقية عديدة بعد التحرر من الاستعمار.

وبالمثل، فإن أي دين ترتب على نظام الأسد بسبب شراء أسلحة روسية أو إيرانية، أو اتفاقيات تقييدية وقّعت في ظروف حرب وقمع، فهو دين باطل، ولا يجب أن يسدد من جيب الشعب السوري، بل هو في حقيقته جزء من أداة الجريمة.

ثانياً: الدولة الجديدة لا ترث الاتفاقات الجائرة

وفقًا لاتفاقية فيينا حول خلافة الدول في المعاهدات (1978)، فإن الدولة التي تخلف نظامًا ساقطًا لا تُلزم تلقائيًا بكل اتفاقاته، خصوصًا إذا كانت:

  • أُبرمت من حكومة غير شرعية أو خاضعة للاحتلال،
  • أو ترتبت عليها نتائج تمس السيادة الوطنية،
  • أو تتعارض مع المبادئ الدستورية الجديدة.

وإضافةً لذلك، فإن اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (1969) تعطي الحق في إلغاء أي معاهدة وُقعت تحت التهديد أو الإكراه أو تتعارض مع قواعد القانون الدولي الآمرة، ومنها:

  • المعاهدات التي أبرمت خلال القمع،
  • الاتفاقيات التي أدّت إلى انتهاكات حقوق الإنسان،
  • العقود التي رسّخت الاحتلال أو التبعية الاقتصادية

ثالثاً: القواعد العسكرية الروسية والإيرانية باطلة

الوجود العسكري الأجنبي على الأراضي السورية تم في ظل نظام ساقط شعبياً وأخلاقياً، ومن دون أي تفويض شعبي أو دستوري. وبالتالي فإن أي قاعدة عسكرية روسية أو إيرانية أُنشئت في تلك المرحلة:

لا تتمتع بأي مشروعية قانونية أو سيادية، بل تُعد احتلالًا يجب إنهاؤه فورًا دون تفاوض. وليس من المنطقي أن ندخل في مفاوضات على أمرٍ هو ساقط حكماً بزوال النظام الذي شرّعه. وإن إخراج هذه القواعد هو جزء من استعادة السيادة، لا بند تفاوض سياسي

رابعاً: التصريحات الرسمية لا تُعد اعترافاً قانونياً

ورغم أن بعض مسؤولي الدولة الجديدة – ومنهم وزير الخارجية – قد صرّحوا في مناسبات متعددة بوجود ديون مترتبة على سوريا لصالح روسيا أو إيران، إلا أن هذه التصريحات لا تُعد اعترافًا قانونيًا مُلزِمًا بحسب قواعد القانون الدولي.

فهي لم تصدر ضمن اتفاق مُعتمد، ولا تشكّل قبولًا قانونيًا للدَّين، ما لم تُتبع بخطوات تنفيذية أو توقيع رسمي.

كما أن البيان السياسي لا يرقى إلى مقام الإقرار السيادي، بل يمكن تصنيفه كتوصيف للوضع الموروث لا كموقف شرعي نهائي. ولهذا، فإن الدولة السورية الجديدة تحتفظ بكامل حقها في:

  • مراجعة شرعية هذه الديون،
  • تصنيفها ضمن “الديون البغيضة”،
  • ورفض سدادها باعتبارها جزءًا من أدوات القمع والقتل الجماعي.

خامساً: المطالبة القانونية بالتعويضات

بعكس ما يتوهمه البعض، فإن الدولة السورية الجديدة تملك الحق في:

  • رفع دعاوى أمام محكمة العدل الدولية للمطالبة بالتعويضات،
  • ملاحقة المسؤولين عن الجرائم أمام المحكمة الجنائية الدولية .
  • إنشاء لجنة أممية للتعويضات على غرار ما حصل بعد غزو العراق للكويت.

وفقًا للقانون الدولي، فإن الدول التي تورطت في دعم نظام ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تتحمل مسؤولية قانونية وتعويضية، لا سيما إذا قدمت الدعم العسكري والمالي والسياسي دون تفويض من الأمم المتحدة.

سادساً: أدوات الرد السياسي والاستراتيجي

إذا أصرت روسيا أو إيران على تسديد الديون أو رفضت دفع التعويضات، يمكن للدولة الجديدة الرد بأدوات متنوعة، منها:

  • . الرفض السياسي للديون والمطالبة بإلغائها عبر الأمم المتحدة والمحاكم الدولية
  • . التحرك الدبلوماسي لحشد تأييد دولي لملف التعويضات.
  •  المطالبة بإعادة أصول الدولة السورية المنهوبة أو المجمدة.
  • . المقايضة السياسية، مثل وقف التطبيع مقابل التعويض أو الاعتراف بالمسؤولية.
  •  ربط إعادة الإعمار بمبادئ العدالة الانتقالية والمحاسبة.

خاتمة: منطق العدالة قبل منطق الحسابات

لا يمكن بناء دولة سورية جديدة على أنقاض الظلم، ثم نُجبر على دفع فواتير الرصاص الذي اخترق صدور أبنائنا.

لا يمكن للجلاد أن يطالب الضحية بالتعويض.

لا يحق للذي ساعد في تهديم المستشفيات أن يطالب بثمن الطوب والإسمنت.

ولا يحق لمن سلّح القاتل أن يطالب بثمن الرصاصة.

نحن، أبناء هذه الأرض، نطالب بحقوقنا لا بثأرنا، ونستند إلى القانون لا الانتقام، ونبني مشروع دولة يحترم الإنسانية والعدالة، ويرفض منطق الاحتلال والاستتباع، ويعيد للعالم تعريف العدالة كما يجب أن تكون.

_________________________

  • كاتب و باحث سوري مستقل في الفكر السياسي والاجتماعي، يهتم بقضايا الهوية السورية ، وتحولات الدولة، و إشكالات الانتقال السياسي بعد النزاعات.
زر الذهاب إلى الأعلى