الرأي العام

المقال | حسيبة عبد الرحمن وبودكاست السجن السوري

محمد منصور

في فورة شيوع وذيوع البودكاست العربي، الذي لا يحتاج سوى لمايكروفون ومحاور وضيف واتصال مباشر جعلته وسائل التواصل الاجتماعي في متناول الجميع، بعد أن كان حكرا على محطات تلفزيونية كبرى تمتلك إمكانية التواصل عبر الأقمار الصناعية، سوف تتعثر بما هب ودب من الأحاديث والسرديات والثرثرات… لكن وسط كل هذا الركام الذي يجمع مشاهير ومجاهيل… ومثقفين وأنصاف مثفقين، وأشباه أميين بدرجة نجوم… يمكنك أن تعثر وسط كل هذا الركام على ما يستحق الاستماع وما يستحق الاحترام.

ومن هذا القليل النادر، بودكاست (قصة سجين) مع الروائية والناشطة اليسارية السورية حسيبة عبد الرحمن. الذي بث على قناة قصة سجين، على اليوتيوب وهي قناة توثق قصص معتقلين سابقين وملاحقين عملوا يوما في النضال السرّي يدير الحوار فيها المعتقل السابق مروان محمد.

حسيبة عبد الرحمن مع مروان محمد في بودكاست (قصة سجين)

من بيتها في حي كفرسوسة، القرية الملتصقة بخاصرة دمشق، والتي التهمت المدينة الكثير من بساتينها وحولتها إلى حي كبير من أحيائها، ينطلق صوت حسيبة عبد الرحمن، قوياً شجاعاً، ليستعيد ذاكرة السجن والنضال وصراع الأفكار والأحلام مع نظام استبدادي وظائفي، دعم الغرب الديمقراطي وجوده وبقاءه جاثماً على صدور السوريين، رغم كل المجازر والجرائم والسيرة السوداء داخلياً وخارجيا.

ينطلق صوت حسيبة عبد الرحمن ليروي أحلام فتاة انتسبت عندما حصلت على الشهادة الثانوية إلى معهد الغزل والنسيج لأنها أرادت “تثوير العمال” وقادها نشاطها في رابطة العمل الشيوعي في سبعينيات القرن العشرين، لتعرف معنى السجن السياسي لأول مرة عام 1979 وأين… في بيت أحد رؤساء سورية السابقين، الشيخ تاج الدين الحسيني، ذلك القصر المترف في حي الحلبوني الدمشقي، الذي أقلق صوت حسيبة وهي تضرب وتعذب في أحد زنازينه منام سكان الحي الهادئ المتميز الطراز.

كنت وأنا أسمع حديث السيدة حسيبة وأستعيد معرفتي بالحي والبناء (من الخارج) أتخيل درجات الطغيان وأشكاله، فهناك طغاة يحافظون على جمال المكان كي يخفي بشاعة سياساتهم وسلوكياتهم، وهناك طغاة يبدو الاعتداء الهمجي على المكان جزءا من بشاعة قمعهم ووجودهم، وتعبيراً عن انحطاط رؤيتهم للحياة والحجر والبشر.

تخوض حسيبة عبد الرحمن عبر جزئين يمتدان على أكثر من ساعتين ونصف الساعة في مسيرة ذاتية سكنتها لوثة النضال، ترى فوق كل الأيديولوجيات والشعارات، أن الظلم هو الذي دفعها إلى هذا الطريق. الظلم وحده كاف ليدفع صبية مانت ناشطة في اتحاد شبيبة الثورة أن تكتشف أن للحياة وجه آخر اسمه المعارضة، معارضة التدجين والمنظمات الشعبية التي تسبح بحمد الأب القائد، وتسلمه مصيرها للأبد، مكتفية بتمجيد كل إنجازاته وهزائمه وتقلباته وسجونه ومعتقلاته. فتقودها خطاها إلى مخيم اليرموك، حيث يعيش اليسار نشاطه المعارض، مختلطا مع الهم الفلسطيني والإرث اليساري.

تقول حسيبة إن الأدب هو الذي قادها للمعارضة… وسوف تدهشك حين تقول إنها كانت تصدق كل ما كانت تقرؤه، وكانت تظن أن كل ما تقرؤه في الروايات هو الحقيقة، ولهذا أنتجت، منذ روايتها الأولى (تجليات جدي الشيخ المهاجر) أدبا روائيا غارقا في السياسة وفي إعادة إنتاج الواقع ومحاولة تفكيكه، كي تجعل من الأدب هو الحقيقة التي نعيشها مهما مزجناها بالأساطير والرموز والأخيلة، وكي تحاكي قضايا وآلام مجتمع مازال يخوض صراعاً مريراً مع سلطة قائمة على العنف والإكراه ونفي ذوات البشر.

تعترف حسيبة عبد الرحمن أن حزبها الذي انتسبت إليه، الذي تحول من رابطة إلى حزب اسمه “حزب العمل الشيوعي” قد مات سريرياً بعد عام 1987 ولم يعد له وجود ملموس في الحياة السياسية، وتقول إن الحزب الذي كان يستطيع أن يعيد انتاج نفسه بعد كل حملة اعتقالات، بات عاجزاً عن ذلك بعد البيروسترويكا، أي بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي ومن ورائه المعسكر الشيوعي.

لا يحمل حديثها المنفعل وصوتها القوي أي نبرة رثاء لا للزمن ولا للأفكار ولا للأحزاب، وإن كانت تتحدث باحترام شديد عن “الرفاق”… فهذه السورية التي سحبت منها هويتها ومنعت من السفر مراراً، وتتكاسل اليوم في استخراج جواز سفر، والتي مازالت تعيش في البيت ذاته منذ أكثر من ستين عاماً، محتفظة بصورة والدها القروي على الحائظ الملون، تملك من القوة كي تتمرد على أي حالة رثاء أو ألم بعد كل تلك الصدمات.

كنت أشعر بالمهانة الشخصية وأنا أسمع حديثها عن الضرب والتعذيب والصعق بالكهرباء والدولاب الذي تعرضت له كإمرأة، على يد رجال يوصفون بأنهم يحمون أمن الوطن… ولكن هذه المرأة الستينية كانت تتابع حديثها بجلد، حتى عندما تحدثت عن زيارة والدها لها في السجن وبكائه لما رأى آثار التعذيب بادية عليها.

ظلت حسيبة عبد الرحمن ممتلئة بالعزة والكرامة في حديثها… فلم نرَ دموع امرأة يتاجر بها صناع البودكاست كي يستدروا عطفاً أو يصطادوا مشاهداً عاشقا للميلودراما.  لقد كانت حسيبة عبد الرحمن كما في أدبها سيدة التراجيديا، أقوى من جلاديها ومنا. وكانت قصتها عنوانا من عناوين الجريمة التي يرتكبها العالم المتحضر بحق سوريا، حين يريد لها نظاما كهذا، يلجم أحلام شعبها ويسومه سوء العذاب.. ويجعل منها مملكة الصمت، أو بلد الثورة الموؤدة التي دمرت قراها ومدنها بالطائرات لسنوات على مرأى من العالم كله، وهجر الملايين من شعبها كي يبقى هذا النظام: حارس الزنازين والكوابيس وظلام المنفردات.

زر الذهاب إلى الأعلى