أرشيف المجلة الشهرية

صديق العمر، وسردية زوال إسرائيل

بقلم: همام البني

في عرس صديق العمر في الشارقة، كنت ممسكاً بكتف والده القادم من الوطن، أنهينا عراضتنا الشهيرة: “حمص العدية فيك سباع وميماس وخالد سيف الله… حمص العروبة فيك رجال.. أمضى سيوف سيوف الشام.. بأرض السويدا جتنا الخيل.. يا عمّي خيلا جسورا ما تهكلا هم”.

مع اقترابنا أكثر كان صوت المجْوز، أو اليرغول الفلسطيني يبدو أكثر وضوحاً. العروس سيدة فلسطينية من الجيل الرابع،  أصبحنا على الباب، متجهين إلى القاعة مباشرة. اختفت كل الأصوات، إلا صوت المجوز، وأغنية “وين ع رام الله وين ع رام الله.. ولفي يا مسافر.. وين ع رام الله ما تخاف من الله.. كويت قليبي ما تخاف من الله.. عد الخيل ويالله.. خيل من رام الله” شدتني  صلة الخيول الخفية، نظر إلي عمي أبو حازم ضاحكاً، مع اختفاء العريس داخل القاعة، قلت له: “تكلَكش”، كلمة السرّ الغزّاوية الشهيرة.

عند الفلسطيني الخارطة واضحة، أبناء فلسطين ليسوا أبناء الحياة، هم أبناء الوطن، دفعوا ما عليهم مرة واحدة، ما جرى بعدها يدخل بحسابات الربح.

في سبعينيات القرن الماضي، إسرائيل بعنفوان التأسيس والانتصار، حاولت التخلص من ٣٠٠ ألف غزّاوي، اليوم تواجه مليونين و ٣٠٠ ألف في  المساحة نفسها، مع جدران عزل مهدّمة، ودولة بلا هوية.

كُلّ كهول فلسطين أمنيتهم واحدة، مشاهدة التحرير قبل الموت؛ الشباب أكثر يقيناً أنهم سيكونون حاضرين، لا شكوك، أو هواجس، العقلية الجمعية الفلسطينية والعربية الشعبية، بطبيعة الحال مجتمعة على أنها مسألة وقت فقط، متى؟

السردية على الضفة الأخرى مفاجئة، إذا لم نقلْ صادمة، رغم التمدّد الجيوسياسي في المنطقة والعالم، رغم الاتفاقيات والأحلاف، وامتلاك أقوى الجيوش، لا حديث في الأوساط الإسرائيلية، الفكرية، السياسية والعسكرية، إلا حول زمن الزوال، ونهاية الدولة، أول المبشرين المعاصرين، وأكثرهم تفنيداً لشروط البقاء، المتناقصة، رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، الذي كشف عن مخاوفه من قرب الزوال، قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيس إسرائيل، مستشهداً أنه: “في التاريخ اليهودي لم تُعمَّر دولة أكثر من 80 سنة، إلا في فترتين، فترة الملك داود، وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن”، إذاً نحن في نصف العقد الأخير.

رئيس الوزراء المستقيل سابقاً، نفتالي بينيت، اعتبر أن” إسرائيل تعيش واحدة من أصعب لحظات

الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق، محذراً أن الدولة تواجه خطر السقوط والانهيار، بسبب عدم الانسجام بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى وجود اليمين المتطرف الآخذ في التوسع”.

وزير الدفاع السابق، بيني غانتس، اعتبر أن أخطر أسباب الانهيار” تعاظم الثقل الديمغرافي لفلسطينيي الداخل، وتشبثهم بالهوية الوطنية”، بينما يَظهر رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو أكثر تفاؤلاً، بإعطاء وعد غير مؤكد أنه “سيجتهد، لأن تبلغ إسرائيل المئة عام، لكن هذا ليس بديهياً حسب التاريخ”، ونتنياهو نفسه، كان ذلك، قبل يوم ٧ أكتوبر، حيث لن يستمر بعده، لعام واحد بأغلب التوقعات.

يدرك الإسرائيلي مكامن الانهيار، يعمل قدر استطاعته بيأس، على تداركه. الوقت يمضي، كل صاروخ، أو معركة يعني اللعب بعدّاد العمر، في مقابل صمود فلسطيني مذهل، صمود لا قيمة للوقت فيه، عدّاد المجازر هو ذاته عدّاد النصر، بكل وجعه، نصر

الحنكة، وإدراك اللحظات الفارقة، نصر التمسك بالحليف الحقيقي، والنوايا الصادقة، هل يشكّ إنسان بقيمة فلسطين، عند أي عربي، بكل انقساماتهم، ومستوياتهم القيادية والشعبية؟ وهل يملك العرب مجتمعين القدرة على مجابهة قوى الغرب، ومن خلفهم أميركا اليوم؟!

الحرب، كما السياسة فن الممكن، الفلسطيني الإنسان السياسي والمثقف بحاجة دائماً لزاويته الأوسع، مقاربة الحكمة التي انتشر بها، على كل الصُعد  انتشاراً نشهده الآن في الساحات الحقيقية والافتراضية.

فلسطين الجغرافيا والأرض، بحاجة إلى عمق سوري، عراقي، لبناني متماسك، مصر بكُل “كدّعنتها”، خليج يزداد قوة وازدهاراً، والمغرب العربي الواسع بطاقاته ووعيه، كل الطرق هنا تؤدي إلى فلسطين، الطرق الأخرى مجرّد سراب ووهم، حتى لو بدت حقيقة، من يصادر كل المشاريع والجبهات لا مشروع له غير الاحتكار، من يحتكر يُتاجر، يبيع، ويشتري، الضوء الباهر يُعْمي، هناك في العتمة، تكمن الحقائق، وتحت جبال النار، الكثير، إن لم تشاهده الأعين تدركه العقول.

من لديه Manifesto جاهز لطريق الخلاص، غير التخطيط الإستراتيجي العاقل والمتأني، ليأتي به. لفيلسوف القوة، الألماني فريدريك نيشته، حكمة بديهية تقول: “الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى”؛ الشرط العميق، ألّا تُقتل سياسياً، وعسكرياً وعاطفياً.

إسرائيل اليوم في “مصيدة ثيوسيديديز” TRAP Thucydides وثيوسيديديز هو مؤرخ الحضارة اليونانية القديمة الذي أرّخ للحرب بين أثينا العقل، وإسبرطة التجنيد العسكري الهائل. هي مصيدة الزمن والجنون، “تكلكوش”، الطرق إلى فلسطين، كثيرة، بعدد السالكين.

من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى