أرشيف المجلة الشهرية

"مذكرات يوسف الفيصل" ذكريات ومواقف في تاريخ سوريا المعاصر

 خالد عواد الأحمد – العربي القديم

يضم كتاب “يوسف الفيصل ذكريات ومواقف” سيرة حياة أحد أقطاب الحركة الشيوعية في سوريا والوطن العربي، منذ أكثر من أربعين عاماً، وخلال فترة زمنية تبدأ بدخوله الجامعة السورية عام 1946، وانتهاء بعقد المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري العام 1969.

الكتاب لا يبدو مذكرات شخصية، ولا تسجيلاً للوقائع التاريخية، بل هو مزيج بين الاثنين، استطاع المؤلف فيه أن يعرض للقارىء تفاصيل هذه المرحلة من حياة الحزب الشيوعي السوري، وهي إحدى المراحل المهمة في تاريخه، فهي المرحلة التي نما فيها الحزب، وأصبح قوة جماهيرية جدية في سوريا، واتسع تأثيره في تطور الأحداث، وأخذ يظهر بوضوح كامل، وقد تخطى المؤلف الراحل، كما يقول في مقدمته المرحلة الأولى من تأسيس الحزب وظهوره، هذه المرحلة التي لم يشارك فيها شخصياً، وكتب عنها كثيرون، ومنهم محمد دكروب في كتابه جذور السنديانة الحمراء، وآرتين مادويان، ونقولا الشاوي في مذكراتهما.

 ولم يكتفِ الفيصل بعرض تفاصيل المرحلة التي عايشها من تاريخ الحزب الشيوعي، بل تصدى لانتقاد مواقف الحزب في منعطفات مفصلية، كالوحدة السورية المصرية، مشيراً حسب قناعته إلى الخطأ والصواب، بما في ذلك الانتقاد الذاتي لموقفه من هذا الخطأ أو ذاك، فليست مسيرة الحزب -كما يقول- كلها صفحة بيضاء، وليست كلها إنجازاً إيجابياً، ففيها الأسود والأبيض والإيجابي، ولكن المهم في ذلك هو الحصيلة الإيجابية الكبرى التي حققها الحزب.

 وقد قدم للكتاب المفكر السياسي رفعت السعيد رئيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر بكلمة مؤثرة، أشار فيها إلى أن أمر الكتابة، ومدى موضوعيتها مسألة بالغة التعقيد، وربما تزيد تعقيداتها لتقترب من الاستحالة.

باب التركمان

في حي كبير من أحياء مدينة حمص، كان يُسمى باب التركمان، وسمّي في ما بعد ظهر المغارة، وفي ليلة شديدة البرودة يوم السابع من فبراير/ شباط العام 1924، ولد يوسف الفيصل، وكان والده محمد رشيد الفيصل من عائلة متوسطة معروفة في مدينة حمص بأخلاقها وتعاملها الطيب مع الناس، وقد درس والده في مكتب عنبر بدمشق، ثم تابع دراسته في جامعة الإستانة (إسطنبول)، وتخرج صيدلانياً، وافتتح في عام 1908 أول صيدلية في مدينة حمص.

ويتوقف المؤلف عند بدايات وعيه الوطني والنضالي، وكان ذلك عام 1936، حين شاركت مدينة حمص، مثل غيرها من المدن السورية في الإضراب الخمسيني الشهير ضد الاحتلال الفرنسي، ومن أجل تحقيق الاستقلال الوطني، وكان الإضراب شاملاً، كما يقول، وأصبحت المدينة قسمين، قسم تحت سيطرة الاحتلال، وهو يمتد من مدخل الجامع النوري الكبير، ومدخل الحمام الجديد والساحة التي تليه، وحتى الساعة القديمة، وبناء دار الحكومة القديم والبلدية، ومقهى الروضة، والقسم الآخر، وهو تحت سيطرة القوى الشعبية، ويشمل الأسواق التجارية كلها، وحي الفاخورة، ثم الأحياء العميقة في داخل المدينة، وبرغم أني كنت صبياً في الثانية عشرة من عمري، إلا أنني شاركت لأول مرة في حياتي في ضرب المقلاع ضد جنود الاحتلال الفرنسي.

الشيخة ناجية الحداد

أمضى الفيصل أيام طفولته، كما يقول في كُتّاب، تشرف عليه امرأة تُدعى الشيخة ناجية الحداد، وكان عليه أن يتعلم قراءة القرآن، وأن يكتب بعض الكلمات، ولكن روح المشاغبة المبكرة حالت دون ذلك، وكان يحاول تمضية الوقت باللعب، مما أغضب الشيخة، وعاقبته بوضعه في غرفة الحطب، وكان ذلك أول سجن يواجهه في حياته التي شهدت الكثير من حالات الاعتقال والسجن.

 وفي المدرسة الخيرية الإسلامية التي تحولت في ما بعد إلى الميتم الإسلامي، تلقى يوسف الفيصل أول دروس الوطنية، فكان عليه صباح كل يوم، كما يقول تحية العلم السوري ذي النجوم الحمراء الثلاثة، وكانت المدرسة على بعد بضعة أمتار من الثكنة العسكرية الفرنسية، وكانت فرصة عند الخروج للتزود ببعض الحجارة، وقذف جنود الاحتلال الذين كانوا يردون بقذف البيض، وشارك الفيصل لأول مرة في تظاهرة، عندما خرج مع زملائه من المدرسة، وساروا في شوارع المدينة، وكان المتظاهرون ينشدون أناشيد وطنية.

في صفوف الكشفية

ويضيف الفيصل: لقد كنت تلميذاً عادياً، أتابع الدروس التي تعجبني، وأهمل الدروس الأخرى؛ ولهذا كنت مولعاً بالتاريخ والإنشاء، ولم أكن مولعاً بالحساب واللغة الأجنبية، ومع ذلك نجحت في دراستي، ووصلت إلى امتحان السرتفيكا، وعندما نلت السرتفيكا كنت مولعاً بالملاكمة والسباحة، وبشباب الحي ذوي الشوارب المفتولة، وترك ذلك في نفسي صراعاً، لم يكن حسمه إلا عند بدء الدراسة الإعدادية، وتعرفي إلى رفاق كان لهم أثر كبير في حياتي، فعن طريقهم انتسبت إلى فرقة كشفية، ومن صفوف هذه الفرقة تحولت إلى النشاط الفكري والسياسي، وأصبحت بين ليلة وضحاها عضواً في الحزب الشيوعي، وبقيت كذلك طوال حياتي. وكانت أيام دراستي الإعدادية والثانوية صاخبة، وكنت نشيطاً في أكثر من ميدان، تقدمت في الفرقة الكشفية، وأصبحت مسؤولاً، وشاركت في رحلتين كشفيتين، الأولى على الدراجات إلى بعلبك، وكانت رحلة من أجمل ما أذكر.

 أما الرحلة الثانية، فكانت إلى دمشق لحضور أول استعراض، أمام رئيس الجمهورية شكري القوتلي الذي انتُخب في عام 194٣، ويمضي المؤلف في سرد جوانب حياته الأولى، ليتوقف عند أيام دراسته الثانوية الممتلئة بالنضال، ففي تلك المرحلة، أي أوائل الأربعينات، برز في سوريا تحرك سياسي نشيط، إذ أخذت صفوف الحزب الشيوعي تتسع بتأثير النشاط الفعال لأعضاء الحزب، وكذلك بتأثير إشعاعات الوضع الدولي، وخاصة التحول الذي طرأ على مجريات الحرب العالمية الثانية، إذ استطاع الجيش الأحمر أن يصمد في معركة ستالينغراد، وينتزع الإعجاب الجماهيري.

ويضيف المؤلف: كان النضال خلال سنوات الأربعينات جذاباً ومليئاً بالمعارك المختلفة، وكنا نحن الشيوعيين الشباب، نُقدم على هذه المعارك بحمية وحماسة، ولم يكن بين أيدينا كتاب تثقيفي، والكتاب الوحيد الذي قرأته في هذه الفترة كان بضعة أجزاء من تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي الذي لم تكن قد أُنجزت ترجمته إلى العربية بعد.

شقة الحزب في دمشق

ويتوقف المؤلف في الفصل الثاني من كتابه، عند مرحلة الدراسة الجامعية، ويقول: بعد نيلي شهادة البكالوريا الثانية أصبح الباب مفتوحاً للدراسة الجامعية، كانت رغبتي وتوجهي هي التخصص العالي في الفلسفة أو الاقتصاد السياسي، ولكن الأمور لم تسر كما رغبت، واضطررت أن أسجل نفسي في معهد الطب فرع الصيدلة؛ بسبب وفاة والدي، وحاجة العائلة إلى من يدير الصيدلية التي كان مسؤولاً عنها، وأخذ أخي الأكبر محمد ظهير الفيصل على عاتقه إدارة الصيدلية، والإشراف عليها حتى أتخرج. أشهري الأولى في العاصمة كانت صعبة، وكانت كل حواسي مرتبطة بمدينتي حمص، وكنت أخط أسبوعياً أكثر من رسالة لرفاقي في حمص وللعائلة، كما كنت أحرص على السفر إليها كلما سنحت لي فرصة ذلك.

بعد أسبوعين من وجودي في دمشق، أصبحت أتردد إلى مكتب الحزب، وكان عبارة عن شقة واسعة. كانت منظمة الحزب الشيوعي السوري في الجامعة السورية التي أصبحت عضواً فيها، تضم طائفة متنوعة من الطلاب، وكان في عدادها رفاق لبنانيون وأردنيون. بدأ المؤلف نشاطه الحزبي عضواً عادياً، كما يقول، وخلال النشاط الحزبي والسياسي، والمشاركة في التظاهرات السياسية المختلفة، تطور موقعه في المنظمة الجامعية، وأصبح في ما بعد مسؤولاً عنها.

 ويشير الفيصل، بعد ذلك إلى تجربة السجن الأولى التي عاشها في كل من سجنَي القلعة والمزة العسكري، بعد اتهامه مع عدد من رفاقه بقتل صلاح الجعفري الذي كان أحد الناقمين على الحزب الشيوعي السوري.

ويتوقف يوسف الفيصل في الصفحات اللاحقة من مذكراته، عند وقائع بعض الانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا بين عامي (1949 1961)، ومنها انقلاب حسني الزعيم، وانقلاب سامي الحناوي، وانقلاب العقيد أديب الشيشكلي، والأحداث التي شهدتها سوريا بين هذين التاريخين.

صحفي وكاتب سوري

_________________________________________

من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى