أرشيف المجلة الشهرية

حتى غمضت عيوني… أنا باسل شحادة

اليوم مع انتصار الثورة التي ضحى من أجلها، يتردد صوته في سماء حمص

فواز حداد – العربي القديم

تبدو سيرة باسل شحادة مضطربة، من فرط تقلباتها وحيويتها واندفاعها، فمن التخرج من كلية الهندسة المعلوماتية – قسم الذكاء الاصطناعي – في جامعة دمشق عام 2006، ثم الرغبة في دراسة الطب، تحت تأثير اطلاعه خلال إقامة والدته بالمستشفى على ارتهان الطبابة لجشع بعض الأطباء، لكنه أخفق، ثم محاولته دراسة علم الآثار، وعمله مع منظمات الأمم المتحدة في سوريا، كما لم يفارقه شغفه بالتصوير والموسيقى، حتى أخرج عدة أفلام قصيرة، وثّق فيها شهادات الأطفال عن الحرب في لبنان، وقام بنشاط خيري لإدخال بهجة العيد إلى مخيمات النازحين بسبب الجفاف. كما كانت له جولات طاولت التعرف إلى معظم المناطق السورية، وفرتها له هوايته في ممارسة رياضة المشي، تطورت إلى رحلات بالدراجة الهوائية خارج سوريا، طاف بها عدة بلدان، ابتدأت بتركيا، فإيران، وباكستان، والهند.

عندما هبت رياح الربيع العربي، ونجح المصريون في إسقاط نظام حسني مبارك،  شارك باسل في الاعتصام أمام السفارة المصرية في دمشق، وهتف بشجاعة، وبملء فمه “هبّي يا رياح التغيير”، لم يستمر الاعتصام، فضّ بالقوة، شارك بعدها في مظاهرة المثقفين في حي الميدان، وتم توقيفه لكونه من المنظمين. عقب إطلاق سراحه غادر سوريا، وكان قد حصل على منحة فولبرايت، لدراسة الإخراج السينمائي في الولايات المتحدة الأميركية، والتحق بالفصل الشتوي في جامعة سيراكيوز.

في أمريكا أخرج فيلماً وثائقياً، بعنوان «الغناء للحرية»، احتوى على مقابلات مع مفكرين معروفين عالمياً، يؤيّدون المقاومة السلمية ضد الأنظمة الديكتاتورية؛ نعوم تشومسكي، ونورمان فنكلشتين، وإيريكا شينويث، وأيضاً الناشطة السورية رزان زيتونة.  بعد اندلاع الثورة السورية، أوقف دراسته، وعاد إلى سوريا ليُشارك بالعمل الثوري السلمي، وانتهى به المطاف في حمص.

 يعبر باسل بطرافة عن هذه المراحل المتلاحقة في حياته على صفحته: “أنا درست معلوماتية.. لقيت حالي محدود بمعادلات مملة ومكررة، قمت درست اَثار، بس تفاجأت من كتر المستحاثات ببلدي، قمت درست إخراج، حبيتا بس كان بدي أتميز أكتر قمت طلعت ع أميركا، لا .. أنا رجعت ع بلدي أخدت بسكليتي، وسقتا ع الهند مشوار شم هوا.. لقيت الأرض  ما وسعتني.. ما لقيت غير حمص تفهمني وأفهما.. ضمتني حمص حتى غمضت عيوني… أنا باسل شحادة”.

في حمص بدأ نشاطاً محموماً، فقام بإخراج أفلام قصيرة، وثق فيها المظاهرات السلمية، واعتداءات رجال الأمن عليها، وتنقّل بين عدة مدن منها حماة، ونشط مع مجموعة من أصدقائه في الأحياء ذات الأغلبية المسيحية، وحث الأهالي على التظاهر مع الطوائف الأخرى. كما تطوع أيضاً للعمل مراسلاً، وشاهداً لعدد من القنوات الإعلامية العالمية، حضّر لكثير من المشاريع، ولكن لم تكتمل،  وقام بتدريب العديد من المصورين على المونتاج، وأنتجَ فيلماً قصيراً، بعنوان “سأعبرُ غداً”، يوثق الخطر الدائم الذي يهدد سكان المدينة، أثناء عبورهم الشوارع المستهدفة من قنّاصي النظام. خلال تلك الفترة، كان من أبرز الموثقين لقصف قوات النظام السوري واجتياحاتها المتكررة للمدينة، وصوّر عمليات القصف والاقتحام.

بعد اشتداد العمليات العسكرية ، بقي في حمص، ولم يغادرها.  دام استقراره فيه ثلاثة أشهر حتى وفاته، عندما قصفت قوات الجيش حي الصفصافة التابع لحي باب السباع، وفارقَ الحياة متأثراً بجراحه. دُفن في حمص، كما أوصى في 28 أيار/مايو 2012، ولم يتجاوز عمره تسعة وعشرين عاماً.

في دمشق، حوصر منزله، ومنعت قوات النظام أصدقاء باسل من التوجه للصلاة في الكنيسة بعد رمزية تشييعه. في أمريكا أصدرت جامعة سيراكوز بياناً، يستنكر مقتل باسل، ويعزي أهله وأصدقاءه بفقيدهم، وعلق المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي على مقتل باسل بالقول:

«هذا خبرٌ حزينٌ للغاية، لقد كان باسل إنساناً في منتهى الروعة والشجاعة. ما هذا الذي سيحدث في سوريا المسكينة، وهي تزداد انحداراً في هذا الجرف! لا أريد حتى التفكير بهذا».

نذر باسل حياته وجهده ومعارفه ونشاطاته للثورة، وأعطى نفسه كلية لها، صور أفلامه كلها، وكان فيها البطل غير المرئي، جسد فيها الضمير الشاب الذي لا يرضى إلا بالحرية، لم يكن اندفاعه إلا من قناعته، بأنه يقوم بفعل عظيم، يطلع به العالم على جرائم النظام، وكان أهلاً لهذا العمل. ما أعطاه كان أكثر من كافٍ، وإن لم يرضِه، كان ما يريده بلا حدود، فمنح الثورة روحه. كان مقتله خسارة كبرى، بالدرجة الأولى لما أراد أن يفعله، كان بوسعه أن يقدم الكثير، أكثر حتى مما كان هو نفسه يتوقعه، فهذه الروح الوثابة مؤهلة للخوض في المستحيل. نعم، كان خسارة لا يستهان بها.

قبل استشهاده بيومٍ واحد، وبالمصادفة، قام بتصوير طفل يحمل لافتة، كُتب عليها: “ذبحوا اليوم أطفال الحولة، وفي الأمس أطفال العدوية، هل يكون دوري هو القادم؟!”، وكان دور باسل في اليوم التالي.

اليوم مع انتصار الثورة التي ضحى من أجلها، يتردد صوته في سماء حمص: 

“تخيل، كم مرة سنعيشُ ثورة في حياتنا، كيف لي أن أترك الحلم الذي بدأ يتحقّق؟ وماذا سأقول لأطفالي عندما يسألونني؟ هل أجيبهم: عندما بدأت الثورة، تركت وطني، وذهبتُ لأهتم بمستقبلي، أين هو هذا المستقبل من دون وطن حر؟”.

الحلم تحقّق، والوطن حر.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى