التاريخ السوري

انطلاقة الثورة السورية: هل تقاس الثورات بتواريخها فقط؟

خلافنا حول تاريخ انطلاقة الثورة لا ينبغي أن يفسد للود قضية

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم

اقتربنا من نهاية شهر آذار، ولا يزال جدل السوريين محتدماً، وانقسامهم متواصلاً على الأرض وفي فضاءات التواصل الاجتماعي، حول تحديد التاريخ الدقيق لانطلاقة الثورة السورية… هل كانت البداية في الخامس عشر من هذا الشهر، أم في الثامن عشر؟!

ذلك السؤال الذي يبدو بسيطاً في ظاهره، إلا أنه يعكس عمق الانقسام والتباين في وجهات النظر بين السوريين، فكل طرف يرى في تاريخ انطلاقة الثورة برأيه اللحظة الفارقة التي تجلى فيها نضال الشعب ورغبتهم في التغيير، بينما يتحول هذا الخلاف الذي يراه البعض بسيطاً كما أسلفت إلى مصدر جديد للتوتر والخلاف بين السوريين ، وكأن هذه اللحظة – التي قد تكون مجرد تاريخ في التقويم – أصبحت في عيون البعض رمزاً للصراع السياسي والفكري بين مختلف أطياف المجتمع السوري.

في وسط هذا الجدل ، ينسى المختلفون أن الثورات الكبرى لا تُقاس بتواريخها فقط، بقدر ما تُقاس بتأثيراتها العميقة في حياة الشعوب والبلدان ، فالثورة السورية وبكل ما فيها من آلام وتضحيات تظل في قلوب السوريين نقطةَ تحولٍ لمعاناتهم المستمرة منذ عقود ، وحلماً في التحرر لن يموت.

لا يمكننا التقليل من أهمية الموضوع من ناحية الأرشفة والتوثيق، والمهتم بهذا المجال يدرك تماماً ما أعنيه.  بالنسبة لي، ولأن أول معاني الثورة السورية، وأول ما نادت به كان “الحرية” أعتقد أن ثورتي تمنحني الحق، وتمنحني ذلك الهامش من الحرية في تحديد موعد انطلاقتها، سواء من الناحية العاطفية أو الأدبية، وبعيداً عن كل ما لا أحبذ الخوض فيه مما يخص الأرشفة أو التدريس في المناهج الدراسية أو العطلة الرسمية أو.. الخ.

إن الحرية التي طالما نادت بها الثورة تمنحنا القدرة على التعبير عن أنفسنا، وتتيح لنا أن نعيش هذا الحدث الكبير وفقاً لأحاسيسنا ورؤانا الشخصية، وبعيداً عن القيود التقويمية أو التاريخية إن صح التعبير.

مجرد الأحاديث والنقاشات، بل وحتى المزاح بخوف في أوساط السوريين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، أراه بمثابة ثورة سورية أو انطلاقة لها، أو على الأقل مخاضاً لها.

كان السوري الذي يرفض مغريات السلطة في حالة ثورة حقيقية، وكان ثائراً بكل ما للكلمة من معنى من استطاع البقاء مستقلاً في زمن سطوة البعث.

نعم ، كان في ثورة ذلك المعارض الذي لاحقته الفروع الأمنية ، وذلك المعتقل الذي قضى في السجون أكثر من عقدين ، ولكن الظرف لم يكن يساعدهم على الخروج في مظاهرة .

كانت دمعة السوري الجائع طوال هذه العقود قد أعلنت ثورة قديمة في نفس كل سوري حر .

ألم يكن أهل حماة – على سبيل المثال –  من الذين فقدوا أحبة وخلاناً أبرياء قبل أربعة عقود في ثورة كامنة لم تنطفئ ؟! ألم يكن معظم الكورد المعارضين في ثورة داخل نفوسهم عندما جردهم النظام السابق من جنسياتهم ، وسلبهم أبسط حقوقهم؟

ألم يكن ذلك تاريخاً لثورة كل السوريين المؤمنين بعدالة الحقوق المشروعة للكورد قبل عقود من الآن؟

تعد تواريخ الخامس عشر والثامن عشر من آذار تواريخ مميزة في الذاكرة السورية ، فهي لا تجمعنا فحسب ، بل تذكرنا بوحدة شعوب وطننا العريقة التي لا تفرقها الظروف مهما كانت قاسية. الثورة لم تكن يوماً حكراً على منطقة دون أخرى ، ولم تكن شامية أو حمصية أو درعاوية ، بل كانت وستظل ثورة سورية بكل معنى الكلمة.

كنت ولا أزال أشعر في أعماق قلبي أنني جزء من ثورة حية نابضة ، وحتى وإن كانت الكلمة أضعف الإيمان في مواجهة الظلم والاضطهاد ، فإنني لا أتردد في الوقوف مع كل سوري يتعرض لتجريد من حقه أو ظلم أو قهر، وستبقى الثورة متجددة في قلبي ، وتعيش في كل لحظة أرى فيها التفريط بحقوقنا أو التجاهل لطاقاتنا.

يشعر السوري الحر في أعماق قلبه بثورة دائمة ، حتى وإن لم تكن دائماً مرئية في الأحداث ونشرات الأخبار، وتبقى الثورة متجددة في وجدانه كلما تذكر وطنه الذي يعرفه شبراً شبراً ، وفرداً فرداً ، وهو على يقينٍ بأن ما يمتلكه هذا الوطن من طاقات بشرية هائلة وإمكانات عظيمة يسمح له أن يطالب برؤية سوريا دولة قوية تزاحم البلدان المتقدمة في كل المجالات.

كما كان لأطفال درعا شرف إشعال فتيل الثورة ، كان لأبناء الحسكة وأحرار السويداء وحلب وحرائر الساحل والشمال نصيب كبير في دعم واستمرار مسيرتها.

كل الحب لمظاهرة دمشق الأولى وتلك الانتفاضة ، وكل التقدير لمهد الثورة درعا وما قدمته من تضحيات ، ومع كل الاحترام لكل من يهتم بتاريخ انطلاقة الثورة ، أرى أن هذا الخلاف حول التفاصيل يبعدنا عن جوهر ما قامت من أجله الثورة ، وما دفعته سوريا من ثمن باهظ من شهداء ومهجرين، وسعينا المستمر اليوم نحو كتابة تاريخ جديد لوطن جميل كما نحب ونرضى هو الأهم والأولى بالاهتمام.

في الختام ، أقول إن الثورة السورية هي ثورة لكل أحرار وحرائر سوريا ، والنصر كان وسيكون لكل السوريين ، وكما قال الدكتور عبد الكريم بكار: “خلافنا حول تاريخ انطلاقة الثورة لا يفسد للود قضية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى