السُّوريُّ النَّاجح والسُّوريُّ الفاشل
نموذج المرياع الفاشل هو أسوأ نموذج للسُّوريِّ الفاشل، الَّذي أنتجته الثَّورة السُّوريَّة

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
في الثَّامن عشر من آذار-مارس القادم 2026 ستمرُّ الذِّكرى الخامسة عشرة لانطلاق الثَّورة السُّوريَّة المباركة ضدَّ حكم عائلة الأسد المجرمة ومن لفَّ لفيفها من المنتفعين والمرتزقة؛ خمسة عشر عامًا مرَّت، وقبل تمامها وكمالها بقليل أكرم الله أحرار الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة بالتَّحرير الَّذي سيحتفلون بعيده الأوَّل في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر القادم 2025، وقبل هذا الاحتفال جاءتهم أخبار عن تسكُّع المجرم المخلوع بشَّار الأسد في ملاهي موسكو ولعبه البلاي ستيشن في مراكز الأطفال والمراهقين في موسكو في الوقت الَّذي يتعاون فيه ساسة سوريا وقادتها الجديد مع رجالات المنطقة وساسة الإقليم لرسم مستقبل مشرق للجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة وشعبها، ويأتي التَّخطيط لعودة اللَّاجئين السُّوريِّين في مقدِّمة الأهداف الَّتي تعمل عليها قيادة سوريا مع ساسة الإقليم والعالم؛ وذلك ليقينهم التَّامِّ بأنَّ العنصر البشريَّ أو رأس المال البشريِّ-كما يحبُّ الاقتصاديُّون تسميته-أساس كلِّ نهضة وتقدِّم إذا نحَّينا الأهداف والمشاعر والعواطف الإنسانيَّة جانبًا؛ تلك العواطف الَّتي لم تحمِ السُّوريِّين برغم أهمِّيَّتها في أوقات عانوا فيها الأمرَّين هنا وهناك؛ بدءًا من ضيق الأرض والبحار ودول الجوار بأحرار سوريا، إلى افتعال المشاكل ضدَّ اللَّاجئين، إلى التَّنمُّر عليهم والمتاجرة بهم وتحويل مستقبل أطفالهم إلى برامج انتخابيَّة لدى الفاشلين والعنصريِّين من قادة الأحزاب الباحثة عن مواطئ أقدامها في زواريب السِّياسة المظلمة وأراضيها الزَّلِقة.
السُّوريُّ النَّاجح
منذ تزايد هجرة السُّوريِّين بسبب عنف نظام الأسد المخلوع وجرائمه حتَّى يومنا هذا أتابع تقارير عن ظروف عمل السُّوريِّين الصَّعبة في أماكن عملهم المنتشرة على خريطة العالم الواسعة، وقد قرأت كثيرًا من التَّقارير والأخبار عن شخصيَّات سوريَّة ناجحة في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة ومصر والأردن ولبنان وتركيا وأوروبَّا وكثير من دول الخليج العربيِّ وباقي دول العالم، وكانت ظروف عملهم صعبة للغاية برغم التَّقارير العالميَّة الَّتي تحدَّثت عن نجاح السُّوريِّين في أصعب بيئات العمل في كثير من الدُّول المصنَّفة على رأس بيئات العمل الصَّعبة، ويرجع هذا إلى طبيعة الإنسان السُّوريِّ وخبراته وإدراكه مخاطر الظُّروف الَّتي يعيشها؛ ممَّا جعل الألم الَّذي يعانيه ألمًا عبقريًّا؛ وصار هذا الألم حافزًا بدلًا من أن يكون معيقًا، بالإضافة إلى حاجة أسواق العمل المستقرَّة إلى جذب الأيدي الماهرة مع رأس المال البشريِّ الخبير لأنَّهما أساس كلِّ نهضة حتَّى وإن قدَّمت لهم أعلى الرَّواتب والحوافز الاقتصاديَّة، حتَّى وإن أنفقت عليهم أكثر ممَّا تنفق على أبنائها؛ وفي هذه النُّقطة تحديدًا حقِّقت بيئات جذب السُّوريِّين أكثر أرباحها؛ وخير مثال على ذلك أهلنا في جمهوريَّة مصر العربيَّة قيادة وشعبًا بالإضافة إلى المملكة العربيَّة السُّعوديَّة والأردن؛ فقد جذبوا السُّوريِّين وأشعروهم بأنَّهم يعيشون بين أهلهم؛ فقدَّم السُّوريُّون هناك أجوَدَ ما يمكن تقديمه، وحصلوا على حقوقهم المنشودة، في الوقت الَّذي تأثَّر فيه وضْعُ اللَّاجئ السُّوريِّ في العراق ولبنان وتركيا بتنافس الأحزاب السِّياسيَّة هناك وبسبب تحويل اللَّاجئين السُّوريِّين ومآسيهم ومستقبل أبنائهم إلى مشاريع انتخابيَّة لدى قادة أحزاب عاجزين عن اجتراح برامجهم الانتخابيَّة ومشاريع مستقبلهم السِّياسيِّ بعيدًا عن السُّوريِّين؛ وفي المحصِّلة حقَّقتْ بيئات الجذب منافع متبادلة ومشتركة بين اللَّاجئ وبيئة جذبه، والحقُّ أنَّ مكاسب بيئة الجذب أكبر بكثير من مكاسب اللَّاجئ؛ لأنَّ اللَّاجئ يكتفي بحقوقه البسيطة ليقوم بواجباته على أكمل وجه، وبأجور رخيصة قد تساوي أجور المواطنين الأصليِّين وأحيانًا تكون أقلَّ منها؛ وإذا أردت التَّأكُّد عزيزي القارئ أنَّ فائدة بيئة الجذب على المدى البعيد أكبر بكثير من فائدة اللَّاجئ أقدِّم لك هذه الأمثلة الحضاريَّة.
كان الفراعنة يقدِّمون بعثات التَّعليم المأجورة للسُّوريِّين من سوريا الطَّبيعيَّة منذ حوالي 2500 قبل الميلاد رغبة في استقطابهم إلى مصر والاستفادة من خبراتهم المتميِّزة برغم اتِّساع رقعة المملكة الفرعونيَّة، وكانت النَّتيجة بظهور الأهرامات المصريَّة أبرز أهمِّ عجائب الدُّنيا السَّبع؛ وههنا لا أدَّعي أنَّ بناة الأهرامات سوريُّون وإنَّما أقول: إنَّ الأهرامات إرث إنسانيٌّ مشترك، عمل فيه مهندسون كثيرون، ومعماريُّون متميِّزون، ومئات الآلاف من العمَّال، أخذوا أجورهم، وكسبوا بها قوت يومهم، ثمَّ طواهم الدَّهر بين مَن طواهم، وبقيت الأهرامات والحضارة الفرعونيَّة شامخة، ولم تكن المملكة الفرعونيَّة وقتها بيئة جذب لما حدثت تلك النَّهضة العمرانيَّة، وقِس على ذلك في نهضة دمشق الأمويَّة وبغداد العبَّاسيَّة ونهضة روما ونهضة واشنطن وغيرها.
وكذلك أرسلت إيبلا أساتذة الرِّياضيَّات إلى مملكة دلمون في البحرين، واستقطب النُّعمان بن المنذر المعمار سنَّمار، واستقطبت اليونان المعمار السُّوريَّ الشَّهير أبولودوروس الدَّمشقيَّ، ومات المذكورون جميعهم وبقي إرثهم الحضاريُّ في بيئات جذبهم أو في أماكنهم الَّتي استقطبتهم أو هاجروا إليها، وسيعود العمَّال واللَّاجئون السُّوريُّون من لبنان وتركيا، وستبقى الأوابد والقصور والأبنية والمعامل الَّتي شيَّدوها شاهدة على عطائهم؛ وذلك لأنَّ الإنسان؛ أيَّ إنسان، لا سيَّما المبدع، لا يأخذ من دنياه غير قوت يومه، ويبقى منجزه شاهدًا عليه؛ وبالتَّالي فالرِّبح الأكيد يكون مع البلدان والبيئات الجاذبة، وتأتي أوروبَّا في مقدِّمة البيئات الجاذبة؛ وكما جذبت اليونان أبولودوروس الدِّمشقيَّ جذبت ألمانيا كثيرًا من السُّوريِّين الَّذين دخلوا معاملها ومشافيها ومرافقها كلِّها، وأبدعوا في مجالات عملهم، وقد لا يرجع كثير منهم إلى وطنه الأصليِّ إلَّا في زيارات سياحيَّة بعدما نجحوا في البيئة الجديدة، وتأقلموا معها، وتبقى العبرة في نقطتين؛ هما: نقطة الألم العبقريِّ الَّذي يدفع صاحبه للإبداع، ونقطة بيئة الجذب بعدلِها وحرِّيَّتها وقوانينها المدنيَّة الرَّاقية.
المِرياع الفاشل
نموذج المرياع الفاشل هو أسوأ نموذج للسُّوريِّ الفاشل، الَّذي أنتجته الثَّورة السُّوريَّة خلال أربعة عشر عام من اشتعالها، والمرياع لمن لا يعرفه خروف سمين؛ ينتزع الرَّاعي خصيتيه بعد ولادته مباشرة؛ ليكون قائد القطيع، ويطعمه حليبًا من أمِّه ومن الأغنام الأخرى؛ فيطول صوفه، وتضخم جثَّته، ويربط له جرسًا في رقبته؛ فيثغو ثغاءً إيقاعيًّا موزونًا على أنغام الجرس المدلَّى من رقبته، ويمشى خلف الرَّاعي، الَّذي يمتطي حماره، وبين الآونة والأخرى يُلقي الرَّاعي نثريَّاته من الشَّعير والخبز اليابس لمرياعه العِلج السَّمين؛ فيطيب صوته، ويصبح غنُّوجًا مدلَّلًا أو عزيز النَّفس، وقد يدَّعي الشَّرف ويصبح هذا القطيع مجتمعًأ افتراضيًّا موازيًا أو زائفًا يشبه مجتمع الكهف الزَّائف في مغارة أفلاطون؛ هذا الكلب الَّذي ينبح على الغادي والرَّائح كلَّما أحد المارَّة أيقاظ ذلك المرياع الضَّخم المعجب بثغائه من غفوته، أو كلَّما لامه على نهمه على المناصب والشَّعير، كلَّما انتقد الرَّاعي على كسله وتسليمه القطيع للحمار، أو كلَّما زجر الحمار على صبره وعبوديَّته.
ينضوي تحت نموذج المرياع الفاشل كثير من مؤثِّري التِّيك توك ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وكثير من مرتزقة الإعلام عند هذا وذاك من أمثال عزمي بشارة الَّذي يكيد للسُّوريِّين ليلًا نهارًا سرًّا وجهارًا، وينضوي تحت هذا النَّموذج أدعياء الدِّين، يتنقَّلون بين الفصائل والمذاهب وسائر الملل والنِّحل مقابل مكاسب رخيصة، ويدَّعون أنَّهم مرضى على مشارف الموت، عادوا للوطن بعد تحريره ليعملوا فيه برغم مرضهم الشَّديد، وعندما تثق به القيادة، تعود الرُّوح إلى العظم الرَّميم؛ فيستغلُّ الدَّعيُّ منصبه، ويبدأ ببناء منظومته الشِّلليَّة، فيعيِّن أخاه هذا مستشارًا وذاك عضوًا في هذه اللِّجنة وذاك في تلك الإدارة، وقد تخدعك على المنابر ضجَّته الإعلاميَّة مع لحنه في القول وفصاحته الَّتي اعتاد بها خداع مناظريه السَّابقين من قادة الفصائل المتناحرة، وقد تستعذب صوته كما يستعذب الأطفال مع أغنام القطيع صوت الجرس في رقبة المرياع؛ فيقول أحد المتابعين: لله درُّ المنصب قد يشفي صاحبه من الأمراض المزمنة، وسبحان ربّك كم في الدَّهر من عِبَرِ! وترى بين المراييع (جمع مرياع) أو في طبقة المراييع كثيرًا ممَّن يحظون بضجَّة إعلاميَّة كبيرة لكنَّ مردودهم لوطنهم مردود صفريٌّ، مرتبطون بهذا المموِّل أو ذاك الجهاز الاستخباراتيِّ، تراهم يعدُّون الدَّبَّابات، ويلقون الأشعار بعد انتهاء معارك الثُّوَّار في معركة خان السِّبل وغيرها فوق الدَّبَّات المعطوبة، وترى القطيع معجبًا بثغاء المرياع أيضًا، ويسترجع بعض المتابعين قول المثل العربيِّ: (عصا الجبان أطول)، ويضيف آخرون: (ولسانه أفصح وأطول..ولحنه في القول أكبر).
ولا تستغرب عزيزي القارئ أيضًا إذا رأيت المراييع والطُّبول الإعلاميَّة بعدما انتهت من بثِّ صورها فوق الدَّبابات المعطوبة وبعد انتهاء المعارك طبعًا؛ فما هذا إلًا رغبة بالظُّهور وحبًّا للمتاجرة بكلِّ شيء، وتحويل كلِّ شيء إلى مكاسب منصبيَّة، ولا تستغرب أيضًا إذا رأيتهم يعدُّون بمنشوراتهم على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ الدَّبَّابات الَّتي يعطبها الملثَّم (أبو عبيدة)؛ ويحلِّل أقواله فليز الدُّويريِّ، ويحلِّل لنا معها صورًا مرفقة من النُّقطة صفر في لعبة البلاي ستايشن، وينفرد ياسر أبو هلالة بتغطية أخبار الملثَّم وتحليلات فايز الدّويريِّ، ويصنعون بذلك وجهًا زائفًا لمأساة أهلنا في غزَّة…ولا تستغرب أيًّا لو رأيت هذا القطيع ذاته…يفرح للشيء ونقيضه…يفرح لبداية الحرب لأنَّ البداية نصر…ويفرح لنهايتها لأنَّ النِّهاية نصر… هذا الفريق نسخة طبق الأصل من انتصارات حسن نصر الله ونعيم القاسم؛ فينشر: قال أبو عبيدة أنَّه عطب عشرة دبَّابات من النُّقطة صفر، وأنا أصدِّق الملثَّم، ثمَّ كتب: عطب عشرة..عشرين..مئة..مئتين…ثمَ اختفى أبو عبيدة، دون أن يعي القطيع كيف صار نموذج الملثَّم محرِّكًا للجماهير؟ من صنعه؟ ومن نصَّبه قائدًا للرأي وموجِّهًا له بيننا؟ كيف صار القطيع يعدُّ الدَّبَّابات المعطوبة وأسماك البحر كغنائم لهم جميعًا…نعم هذا هو من يبيع الأوهام للجماهير…هذا هو من يبيعها سمكًا في البحر…ثمَّ يعلن الإعلام موت الملثَّم…وتبقى منشورات المراييع….
وتبقى الحقيقة الثَّابتة أنَّ جملة من المراييع تتاجر بالقضيَّة لتضمن حصَّتها من شعير الرَّاعي…راعيها الَّذي تعمل له ومعه وعنده وإن اختلف مكان وجودها هنا وهناك…وتبقى الحقيقة المرَّة الأكثر إيلامًا أنَّ أهلنا في غزَّة عانوا مثلما عانينا نحن السُّوريِّين-ممَّن تاجر بقضيَّتنا العادلة، ممَّن حوَّلها إلى مكاسب شخصيَّة ودعاية إعلاميَّة له، ممَّن صفَّق مع القطيع دون أن يعرف شيئًا ممَّا يدور حوله، وتبقى هناك حقيقة واضحة أيضًا تقول: إنَّ كثيرًا من السُّوريِّين وأحرار العالم تعاطفوا مع كلِّ من ينصر أهلهم ويساند أخوتهم المدنيِّين في غزَّة، والزَّمن يغربل الأحرار، ويفرزهم بالتَّأكيد عن المراييع وتجَّار القضايا ومنافيخ الإعلام وباقي أغنام القطيع…وكذلك تقول الحقيقة الأخيرة هذه: نجح معظم السُّوريِّين خلال الثَّورة برغم معاناتهم…وبرغم تصدُّر بعض المنتفعين المشهد بين الآونة والأخرى…وبرغم أنَّ بعضهم ما زالوا يتصدَّرون….لكنَّنا ما زلنا وراءهم نكشف ارتزاقهم ونفعيَّتهم وبراغماتيَّهم هنا وهنالك وهناك….