قصد السبيل | تعدد الهويات: رحلة في الانتماء والأصالة
د. علاء الدين آل رشي
في إحدى ورش التدريب الحقوقية، وجّه لي أحد الحضور سؤالاً عميقاً يحمل الكثير من التحدي: “ألا تشعر بتناقض وحيرة بين مكونات شخصيتك المركبة؟ فالعلماني قد ينظر إليك كأنك من الإخوان المسلمين، بينما يرى الإخوان أنك قومي، والقوميون يعتبرونك متديناً، في حين أن بعض المتدينين يعتقدون أنك حقوقي تدافع عن الليبرالية. إذن، من أنت، بصفتك سورياً شامياً ألمانياً كردياً سنياً صوفياً أشعرياً من أهل السنة والجماعة؟”
ابتسمت حينها، وأخذت لحظة للتفكير قبل أن أجيب. أدركت أن معضلة العقل الأحادي هي من الإرث السلطوي التاريخي الذي ندين به دون أن نؤمن به. هذا السؤال يعكس التحدي الذي أواجهه في كل يوم، لكنه أيضاً يبرز ثراء الشخصية.
لم أختر أيًّا من هذه الأبعاد، ولم أقم بصنعها لنفسي، بل وُلدت في سياق جمعني بكل هذه الانتماءات، فصنعت مني شخصاً يحمل في داخله تنوعًا ثقافياً ودينياً وفكرياً يمتد عبر الحدود والأجيال.
قلت له: “أنا كل هؤلاء في آن واحد، ولا أرى في ذلك تناقضاً، بل أعده ثراءً يغني تجربتي ويعمّق رؤيتي للعالم. هويتي المركبة تعكس كيف يمكن للإنسان أن يجمع بين التقاليد والانفتاح، بين القيم الدينية والمبادئ الحقوقية، بين الأصالة والحداثة، دون أن يشعر بالتعارض أو التشتت.”
الهويات المتعددة ليست عائقاً، بل تتكامل لتثري شخصية الفرد. انتمائي السوري الشامي يجعلني جزءاً من تاريخ طويل وثقافة عريقة، بينما يذكرني انتمائي الكردي بجذوري وتراثي الخاص، الذي يتداخل بشكل طبيعي مع هويتي الإسلامية. أضافت جنسيتي في ألمانيا بعداً جديداً لرؤيتي للعالم، حيث تعلمت قيمة التقدم الإداري والتطور المادي، ما جعلني أؤمن بأن العالم أكبر من الحدود القومية أو الدينية.
الإسلام والقومية
الإسلام، الذي هو جزء أساسي من هويتي، لا يطالب أتباعه بإلغاء قومياتهم أو التنكر لأصولهم، بل يُعلي من القيم الإنسانية والأخلاقية. وكما قال الإمام علي القره داغي: “الإسلام دين التفاضل في القيم والأخلاق وليس في الأصول والأعراق.” (المصدر: كتاب “الإسلام رسالة القيم”، علي القره داغي، ط. دار النشر، 2015).
لقد تمسك العلماء المسلمون بأصولهم دون حرج، فنُسب الإمام البخاري إلى بخارى، والإمام الترمذي إلى ترمذ، والإمام الآلوسي إلى الموصل، معتبرين ذلك مصدراً للغنى والتنوع داخل المجتمع الإسلامي. (مقدمة “صحيح البخاري”، محمد بن إسماعيل البخاري، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1997).
يظهر هذا الاعتراف بالتنوع جلياً في القرآن الكريم، الذي يؤكد على أن الناس شعوب وقبائل ليتعارفوا، لا ليتنازعوا أو يتفاضلوا على أساس الأصل أو الثقافة. الإسلام يعمق التعددية الثقافية والعرقية ويعتبرها قيمة مضافة، ويقيّم الأفراد من منظور القيم التي تتجاوز الاعتبارات الضيقة.
إدوارد سعيد وسليم بركات وتعدد الهويات
العديد من الشخصيات الفكرية جسدت التعايش بين الهويات المتعددة. إدوارد سعيد، على سبيل المثال، كان مفكراً أمريكياً من أصول فلسطينية، وُلِد في القدس ونشأ بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة. هذا التداخل الثقافي سمح له بأن يقدم للعالم رؤية نقدية عميقة ساهمت في تعميق فهم الغرب للشرق من خلال كتابه الشهير “الاستشراق” (Orientalism, Edward Said, Pantheon Books, New York, 1978). لم يشعر سعيد بتناقض بين أصوله الفلسطينية وحياته الأمريكية، بل عدّ ذلك مصدر إلهام دفعه لاستكشاف الفروقات الثقافية والسعي للتقريب بين الشرق والغرب.
سليم بركات، الكاتب الكردي السوري الذي كتب باللغة العربية، يُعد نموذجًا للانسجام بين الهويات المتعددة. بركات، الذي نشأ في بيئة كردية وتحدث بلغة وثقافة عربية، استطاع أن يبرز في الأدب العربي، ويثريه برؤى نابعة من تجربته الخاصة ككردي. لم ينظر بركات إلى انتمائه الكردي كعائق أمام إبداعه في الأدب العربي، بل جعله حافزًا يُعمّق تجربته الأدبية. (المصدر: “سليم بركات: شاعر من كردستان”، أمل سعد، ط. دار الأدب، بيروت، 1999).
أمين معلوف وفلسفة الهوية المركبة
في كتابه “الهويات القاتلة” (أمين معلوف، الهويات القاتلة، دار الفارابي، بيروت، 1998)، يقدم أمين معلوف رؤيته للهوية بوصفها نسيجاً معقداً من انتماءات وتجارب. يرى معلوف أن الهوية ليست وحدة صلبة، بل مزيج من قيم وتجارب فردية. ويؤكد أن الأفراد لا يُختزلون في انتماء واحد، بل هم مزيج فريد من مكونات متعددة. يدعو معلوف إلى الاعتراف بالتعددية كوسيلة للتفاهم، محذرًا من التصورات الضيقة التي تقسم المجتمعات وتؤدي إلى النزاعات.
يقر القانون الدولي وحقوق الإنسان بتعدد مكونات الهوية الإنسانية، ويشدد على ضرورة احترامها. تنص المواثيق الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على احترام حقوق الأفراد في التعبير عن ثقافاتهم وانتماءاتهم بحرية. كما تعزز الحق في الاعتراف بالتنوع، سواء على أساس العرق أو الدين أو الثقافة، ما يتيح للأفراد التعبير عن هويتهم المتعددة دون خوف من التمييز أو الإقصاء. (المصدر: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 1948).
في نهاية اللقاء، قلت للصحفي: “أنا ابن تاريخي وثقافتي، ابن سوريا والشام، ابن كردي ألماني، لكنني أيضاً ابن القيم التي اخترتها بنفسي. لا أرى في ذلك تناقضًا، بل هو تكامل يمنحني رؤية فريدة تساعدني على فهم الآخرين وتثري حياتي. الهوية المركبة ليست عائقًا، بل هي مصدر للقوة والتفاهم.”
الاعتراف بالهوية المركبة يعزز قدرة الفرد على التعايش مع العالم والتفاعل معه بوعي ومرونة. في عصر العولمة وتداخل الثقافات، يجب أن نحتضن التعددية ونعترف بأن كل فرد هو نتاج أصوله واختياراته معاً. بهذه الطريقة، نبني مجتمعات أكثر تناغمًا، حيث يُعتبر التنوع نعمة، وليس عبئًا أو تناقضًا.
ولعل سوريا لن تتنفس دون إقرار بمكوناتها على أساس التكامل وليس التفاضل، والتفاهم وليس الوصاية.