قصد السبيل | معركة المفاهيم: لماذا لا نميز بين الخصم والعدو؟
الخلط بين الاثنين يؤدي إلى كارثة حضارية وأخلاقية.
د. علاء الدين آل رشي
في خضم المشهد الراهن المليء بالتناقضات والتصنيفات المتضاربة، تستوقفنا دروسٌ كبرى تعلمتها من أستاذي المبجل أحمد معاذ الخطيب، دروسٌ لم تكن مجرد مواقف أو رؤى، بل أدواتٍ لفهم أعمق للواقع وتحليل أكثر دقة للمشهد الحضاري الذي نحياه.
علمني أستاذي أن الانتقاد حقٌ مشروع، بل ضرورة في بعض الأحيان. فمن حقي أن أوجه نقدي لأي جماعة تنتمي إلى مجتمعي، سواء كانت تحمل شعارات قريبة من شعاراتي أو تتبنى أفكاراً تناقض رؤاي.
ولكن هذا الانتقاد لا ينطلق من فراغ، بل من منطلق فكري عميق وهويّة راسخة. إنّه انتقاد ينبع من إدراكي للمعنى الحضاري الذي أؤمن به، ذاك المعنى المستمد من أصالة دين الله وسماحته. ورغم قسوة الانتقاد أحياناً، فإنّه لا يعني أبداً أن أتبنى تصنيفات خصمي أو أحكام عدوي.
هنا تحديداً، تتجلى واحدة من أهم القواعد التي علمني إياها أستاذي: أن أفرق بين الخصم والعدو. الخصم هو ذلك الذي أختلف معه في الأفكار والرؤى، ولكنه يبقى جزءاً من نسيج مجتمعي. هو من ينافسني في الساحة الفكرية والسياسية، دون أن يحمل نوايا للإقصاء أو الإلغاء. أما العدو فهو ذاك الذي يسعى بكل ما يملك إلى استئصالي، إلى تدمير وجودي وإلحاق الضرر ببلدي وشعبي. هذا التمييز، رغم بساطته الظاهرية، يحمل في طياته تعقيدات فكرية عميقة؛ لأن الخلط بين الاثنين يؤدي إلى كارثة حضارية وأخلاقية.
لا يمكننا أن نستسلم للمعايير التي يفرضها خصومنا أو أعداؤنا. فمن غير المقبول أن نغمض أعيننا ونردد ما يقولونه، فقط لأنهم يمتلكون وسائل الإعلام أو أدوات التأثير السياسي والعسكري.
إنّ تبني معايير الأعداء يعكس ضعفاً فكرياً وهزيمة داخلية تسبق الهزيمة الواقعية. علينا أن نبني معاييرنا الخاصة، تلك التي تنبع من قيمنا الحضارية ومن تجربتنا التاريخية.
إن المضحك المبكي في هذا السياق هو ما نراه اليوم من تناقض صارخ في مواقف بعض الجماعات والتنظيمات، التي تجدها ترفض وصفها بالإرهاب الذي أطلقه عليها خصومها، لكنها في الوقت ذاته تستند إلى نفس المعايير حين تصف خصومها (كقسد) بالإرهاب! هذا التناقض يفضح خللاً جوهرياً في التفكير، حيث يتحول الموقف من مبدئي إلى نفعي بحت، يخضع لتقلبات المصالح الآنية.
إن أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا اليوم هو الانزلاق نحو عزلة فكرية تغذيها تصنيفات ضيقة وأيديولوجيات جامدة. الكثير من التنظيمات والأحزاب تصرّ على وضع معايير ولاء وخيانة مبنية على رؤاها الخاصة، متجاهلة تماماً تعقيدات الواقع.
بهذه الطريقة، يتحول المشهد السياسي إلى مسرح عبثي، حيث تصبح الأيديولوجيا هي المعيار الوحيد، والواقع مجرد تفصيل يمكن تجاهله.
هذا النمط من التفكير لا يخلق إلا المزيد من الانقسامات. من يوافق الحزب يصبح حليفاً وطنياً، ومن يختلف معه يتحول إلى عدو يجب إقصاؤه أو تشويه سمعته. إن هذا المنطق العقيم يقودنا إلى طريق مسدود، حيث تتحول المجتمعات إلى كيانات منعزلة، كل منها يعيش في قوقعته الفكرية، رافضاً أي محاولة للتفاهم أو الحوار.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب شجاعة فكرية وقدرة على الترفع عن الحسابات الضيقة. علينا أن نعيد صياغة علاقتنا مع خصومنا على أسس من التفاهم والاحترام المتبادل، لا أن ننجر وراء أجندات الأعداء أو نسمح لهم بتحديد أولوياتنا ومعاييرنا.
التوافق الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحررنا من سطوة التصنيفات المفروضة علينا. علينا أن نبني معايير جديدة تقوم على إدراك الواقع بكل تعقيداته، لا على أسس مشوهة أو معايير مزدوجة.
إن مجتمعاتنا تحتاج إلى أن تعي أن الحلول لا تأتي من تبني مشاكل جديدة، بل من البحث عن جذور المشكلات والعمل على حلها. يجب أن نفتح أبواب الحوار والتفاهم، لا أن نغلقها بحجة الولاء أو الخيانة.
نحن أمام تحدٍ حضاري كبير: كيف نميز بين الخصم والعدو، وكيف نبني مجتمعات قائمة على الحوار لا التصنيف، وعلى الاحترام لا الإقصاء؟ الإجابة على هذا السؤال ليست مجرد ترف فكري، بل هي ضرورة ملحة إذا أردنا أن نصنع مستقبلاً أفضل.