الرأي العام

مقامات أمريكية | لا تختبئ من العاصفة

د. حسام عتال *

مرحباً، اسمي حسام، وهو يعني كما تعرفون، السيف. وأنا أحب البرق والرعد، وأعشق العواصف. أنه ليس ذنبي فلكلٍ نصيبٌ من اسمه. ألم يقل عمر ابن أبي ربيعة: يغْسِلُ القَطْرُ رَحْلَها… لا أُبالي أَنْ تَبُلَّ السَّماءُ عَضْباً حُساما. وأعلن لاحقاً المتنبي، بعد مئتين وخمسين عاما”: حِمَالَةُ ذا الحُسَامِ عَلى حُسَامٍ…  وَمَوْقعُ ذا السّحابِ عَلى سَحابِ.

لذلك فوجئت عندما وضعت مقطع ڤيديو قصير يصّور عاصفة (كانت قد مرت بمزرعتنا في ريف غرب ميتشغان الأسبوع الماضي) بردود فعل الأصدقاء. فكثير منهم قد ظن وكأني في خطر محدق قد نجوت لتوي منه: “الحمد لله على سلامتك”، قال البعض، آخرون نصحوا: “دير بالك، انتبه على حالك، لا تخاطر بنفسك”.

من أجواء العاصفة بعدسة حسام عتال (حقوق استخدام الصورة محفوظة للكاتب)

لا استطيع لوم الأصدقاء، فالناس يسرعون ليختبئوا في بيوتهم خلال العواصف الرعدية خشية الضرر، فلا يُعانونها. أو ربما أنهم قد كوّنوا في مخيلتهم صورة عن العواصف المخيفة المُدّمرة كما يَرونها في برامج الأخبار على شاشات التلفاز.  لكن العواصف ليست كلها كذلك، فعدد منها يمر بنا، غالباً في الصيف، عندما تتأرجح حرارة الجو بشدة وتتخلخل طبقات الهواء ويتشكل منخفض جوي قرب آخر مرتفع.

عند العاصفة، أختار البقاء في الخارج، أو أخرج من بيتي إن رأيت عاصفة قادمة في السماء، بلهفة أترقب تلك الطاقة الخام المخزونة في العواصف، والتي تثير حواسي كلها: عيناي تتأمل العرض البصري المذهل الذي ينفرد أمامها، بدءآً بالغيوم الداكنة التي تتفشى بسرعة. بعد حين ترسل هذه الغيوم  وميضها الخاطف كأغصان متوهجة، وتتدحرج ورائها الغيوم البيضاء المتراكمة كالجبال، ثم المطر، ورويداً تشتعل هذه الغيوم بلون ناري، ثم تنطفئ تاركة السماء لزرقتها الصافية. أما أذناي فتنصت لذلك السكون السابق للعاصفة حيث لا صوت ولا حس، فأغصان الشجر دون حراك والأوراق في مكانها لاتكاد ترتجُّ، والطيور التمت في جماعات صغيرة صامتة كأنها تترقب خبراً من ساعي البريد عن رفيق لها قد هاجر منذ زمن بعيد، والحشرات قد اختبأت تحت العشب أو في ثنايا الجدران وبين شقوق الأرصفة .

وفجأة تنفجر السماء بالرعد كأنها، كما نحن البشر، بحاجة للصراخ (أو انها تضحك ملئ صدرها، لا أدري) كي تفرغ ما في داخلها من طاقة مشحونة، فترجف الأرض وتهتز الأبنية، وتتمايل أغصان الأشجار. وتصفّر الريح المجنونة، وينهمر معها المطر وكأنه قد كان محبوساً وراء سد وانفجر، يسيل غاسلاً كلَّ ما في طريقه، تاركاً مستنقعات من الماء اللماع، على أطرافها تكومت أعواد وأوراق الشجر. في نفس الوقت، يبلل الماء ثيابي ويتخللها حتى يصل للجلد فأشعر بأن مسامّه قد غسلت بيد خفية فانتعشت، وأحس بغبطة عارمة وقد تشبّعت كل أحاسيسي حتى الذروة – إنها هدية أرسلتها الطبيعة لي، ولا مناص من الاستسلام الكامل لها.

بعد العاصفة وقد هدأ كل شئ يتفشى في الأثير عبق الأرض المبلولة، أنشقها مالئاً رئتيّ بتلك الرائحة الغريزية، وأنصت فيما تعود للطبيعة أصواتها المألوفةـ: طائر يزقزق معلناً “أنا ما زلت هنا”، جُندبٌ يفرك ساقيه فيصدر صوتاً غريباً، فينفض نفسه من البلل، ثم يعاود المحاولة عسى يجد أزيزه الحاد المألوف ، قطرات ماء تسري عبر الاغصان ثم تسقط لتطرق الأرض برفق، وكأنها تريد أن تقول: “انتبهوا… يُمكن لي أن أكون سيلاً جارفاً، ولكني أعرف أيضاً أين تكمن موارد الرفق والحنية”.

أخيراً يظهر قوس قزح في زاوية السماء: لا شيء يشبه اكتشاف قوس قزح، كباراً كنا أو أطفالاً، البهجة التي ترافق رؤيته لا تخمد مع مرور الزمن. َشغَفُنا بقوس قزح قديم قدم التاريخ، ربما لأنه يساعدنا على اكتشاف من نحن بالفعل، ويظهر لنا ألواننا الحقيقية بتنوعها وأطيافها. هناك مَثَلٌ يتناقله سكان أمريكا الأصليين، يقول: “لو لم تك هناك دموع، لما كان هناك قوس قزح،” من منّا لم يعاني ذاك الشعور؟

ونغادر تجربة العواصف مؤهلين للتغيير والتطهير والتجديد، فلا غرابة إذا أن الأبحاث العلمية تشير إلى أن الناس يجدون في الرعد والبرق علاجًا سحريًا لأمراض النفس المتفشية كالقلق والاكتئاب، لأن العواصف تظهر لنا أن مشاكلنا صغيرة وتافهة مقابل جبروت الطبيعة وقدرتها العنيفة. الكاتب هاروكي موراكامي قال: “عندما تخرج من العاصفة، لن تكون نفس الشخص الذي دخل فيها، وهذا هو كل ما تعنيه العاصفة.” ذلك لأن العواصف تحمل معها كل التناقضات: الظلمة والضوء، الضجيج والسكون، الرهبة والحنان، التخريب والترميم. سواء في خضم الرعد الهادر والبرق اللمّاع أو حين الهدوء الساكن والضوء الدافئ الذان يتبعانه، تدعونا العواصف لأن نكون دوماً منتبهين ويقظي الشعور. وتتطلب منا الرضوخ والقبول لأنه لاحيلة لنا فيما اختارت الطبيعة أن تفعل، فتقدم لنا شعوراً من الطمأنينة والراحة، فهي تخيفنا، وبنفس الوقت تضمنا إلى حضنها الدافئ؛ تؤرقنا، ثم ترفع الأثقال عن صدورنا، فتذكرنا بمكاننا في هذا الإيقاع الكوني الواسع النابض بالحياة.

اسمي حسام، وأنا أدعوك إن رأيت عاصفة بعد اليوم ألا تختبئ، أدعوك أن تخرج من بيتك وتنضم إليها.


_____________________________

* يغيب د. حسام عتال عن كتابة زاويته الأسبوعية (مقامات أمريكية) خلال الأسابيع القادمة، على أن يعود مطلع العام الجديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button