الرأي العام

ظاهرة المواطن السَّائح في الحياة السورية

في دولة المواطنة، لا وجود للمواطن السائح، بل المواطن الفاعل الذي ينظم حياته وفقا للمواطنة

موسى رحوم عباس*  – العربي القديم

      في العام 1983 غادرت مدينتي الرقة إلى المملكة العربية السعودية، وفي بداية إجازة الصيف كنتُ غالبا أعود لمدة شهر أو أكثر قليلا، وأحيانا أفضل قضاء الإجازة في بلاد أخرى ولكلِّ وقت أذانه! كما يقال، لكنني في مطلق الأحوال أبادر من أراه من الأصدقاء أو الزملاء والجيران بالسؤال عن الأحوال؛ فتأتي الإجابات مختلفة حد التناقض، يقول م.م أن البلاد رائعة، ويدلل على ذلك بمجموعة من الصور للمطاعم الجميلة، والأراكيل، وأشياء أخرى لا داعي للتفصيل فيها، بينما يقول غ. س أن البلاد تحتضر؛ الفقراء يزدادون، والفساد يستشري في كل مفاصل الدولة، والفروق الطبقية ترتفع بياناتها صعودا وهبوطا، والطبقة الوسطى تلفظ أنفاسها، والأثرياء الجدد هم السماسرة والقوادون بعد تحالفهم غير المقدس مع العسكر والمخابرات، وقد يضيف إ. ح بأن الحريات منعدمة والاعتقالات لا تتوقف، والأحزاب هياكل خشبية يتربع على سدتها مستحاثات بكروش ناتئة ورؤوس فارغة !

باستقراء بسيط للإجابات السابقة، يظهر لنا نموذج من المواطنين لم يكن معروفا قبل نشوء الدولة الأمنية، أطلقتُ عليه مصطلح ” المواطن السَّائح” وأعني به ذلك النمط من المواطنين الذين يرون الوطن بعين السائح، لا بعين الشريك في الوطن، فالسائح يبحث عن المتعة، ولا يهمه كيف يعيش الناس في هذا المكان، فقد كنا نسافر إلى بلاد الله الواسعة في آسيا أو أوروبا وحتى أمريكا…، نبحث عن البحر والشمس والرقص والغناء والأطعمة الفاخرة، ولم نسأل يوما أحدا ممن يعمل في هذه الأماكن، عن حياته، هل يجد سكنا مناسبا؟ هل لديه تأمين صحي حقيقي؟ هل يتعلم أبناؤه في مدرسة جيدة؟ هل يمنح إجازة سنوية وفصلية تتيح له اللعب مع أطفاله؟ أبدا، لا أظنني فعلت ذلك، ولا أظن غيري فعله! وما يجعل ضمائرنا مرتاحة أننا سواح! والسائح يستغل كل الوقت فيما يريح روحه وبدنه، ومسؤولية هؤلاء تقع على عاتق دولتهم ومؤسساتهم ونقاباتهم … الخ

  • كيف نشأت ظاهرة ” المواطن السائح” في بلادنا؟

  تحولت بلادنا بدءا من انقلاب آذار 1963 إلى دولة أمنية، وهذا لم يحصل في يوم وليلة، بل ما يشبه النهر الذي يحفر مجراه مع الوقت، استيلاء حزب البعث على مفاصل الدولة، ومن ثم اختصر الحزب بمجموعة من العسكر” اللجنة العسكرية” ثم تبارزت مراكز القوى داخل هذه اللجنة؛ تغلب فيها بعض الرفاق على البعض الآخر، مؤامرات، دسائس، طائفية مقنعة بصبغة سياسية، شلل ساسية، وصولا لانقلاب الأسد الأب على رفاقه، وسجن البعض، والتخلص بأساليب مختلفة من البعض الآخر، وما جاءت الثمانينيات حتى صارت سوريا دولة أمنية بامتياز، جزيرة للخوف وآذانا واسعة للجدران، والحصيف من يؤثر السلامة، ويمشي الحيط الحيط، ويقول : يارب! سلِّم، سلِّم، في هذه التربة ينشأ ” المواطن السَّائح” وهو الذي يملك المال، ولديه حياته الخاصة، وأولوياته محددة، المصلحة الشخصية والعائلية، والسلامة، وهذه تتطلب، إغماض العين عن كل ما ينغص هذه الأولويات، فلا يهمه جاره المعتقل، ولا أخوه المبعد من وظيفته، ولا الحريات العامة، ولا الإعلام الحر، ولا العلاقات المشبوهة مع الجهات الخارجية، فهو سائح في وطنه، حدوده المطعم، المقهى، الفندق، التجارة الرائجة عن طريق الفساد، بل إنه يعد الفساد شيئا جيدا طالما يعرف دروبه، ويملك المفاتيح لمن بيدهم القرار، ولسان حاله يردد ” أنا ومن بعدي الطوفان” هؤلاء الذي أطلقت عليهم ” المواطن السَّائح” هم من لايرى جرائم انتهاك حقوق الإنسان، ولم يسمع بالسجون والمعتقلات، بل يشكك في وجودها أصلا، وهم أنفسهم من يملأ مواقع التواصل الاجتماعي صراخا؛ بأن من دمر البلاد هم المطالبون بالحرية، فالبلاد بالنسبة له هي الأولويات التي تحدثت عنها آنفا، وهؤلاء هم من لا يساهم في أي عمل إيجابي لصالح المجتمع، وهم أنفسهم من يستعد لدعم الشيطان في سبيل المحافظة على أوضاعهم المريحة، وللأسف هم أنفسهم من لا يرضون بأن يكونوا مواطنين في دولة مواطنة، ويطالبون بتطمينات ومواثيق تضمن لهم امتيازات وحقوقا فوق المواطنة بحجج متنوعة طائفية ودينية واجتماعية … وما هذه سوى أغلفة وأردية لحالة ” المواطن السَّائح”

إذا عددنا سوريا بعد الاستقلال كانت الجمهورية الأولى، وبعد انقلاب البعث 1963 الجمهورية الثانية؛ وبعد 2025 فنحن في الجمهورية الثالثة، فما هو واجب هذه الجمهورية في خلق المواطنة؟

في دولة المواطنة، يسود القانون، الحقوق والواجبات والدستور الذي يكفل الحريات ويحدد المسؤوليات، ولا وجود فيه للمواطن السائح، بل المواطن الفاعل، الذي ينظم حياته وفقا للمواطنة، وهذا ما نلحظه بوضوح هنا في السويد على سبيل المثال، المواطن يعبر عن انتمائه بالعمل، والحرص على الموارد العامة، واحترام القانون، والمسؤولية الاجتماعية، والإنتاجية الحقيقية في مكان العمل، مهما صغر أو كبر، ومما يؤذي حقا، ما نراه من بعض مواطنينا – أقول البعض- السوريين أنهم ما زالوا يتعاملون مع بلادهم بصفة” مواطن سائح” فلا يكترث لكل تلك الدماء، بل ينكر الجرائم والانتهاكات، أو يقلل منها، متذمرا مما يحدث، لسبب يراه ” وجيها” أنها حرمته من الأركيلة على قاسيون، أو السهر في مطاعم الوادي الأخضر، ترى هل من أمل في تبني الجمهورية الثالثة لفكرة المواطنة الحقيقية، وسيادة القانون في الحقوق والواجبات، أم أننا ندور في حلقة مفرغة؛ لنعيد إنتاج صنفين من المواطنين: المواطن المطحون، والمواطن السائح، وكأنا يابو زيد ما غزيت!

 السويد 10- 3- 2025

_____________________

كاتب وروائي سوري مقيم في السويد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى