الشرعية الانتقالية: هل تملك الحكومات الانتقالية صلاحية الخصخصة وتوقيع الاتفاقيات الاستراتيجية؟
خصخصة القطاع العام خلال هذه المرحلة تُعد مخالفة لمبدأ التقييد المؤقت للسلطة،

عدي شيخ صالح – العربي القديم
في سياق التحولات السياسية الكبرى التي تعيشها الدول الخارجة من النزاعات أو الثورات، تنشأ حكومات انتقالية بوصفها أدوات تسيير مؤقت للمرحلة، لا سلطات تقرير مصيري. وتُطرح في هذا السياق أسئلة مركزية تتعلق بحدود الشرعية التي تملكها هذه الحكومات: هل يجوز لها أن توقّع اتفاقيات استراتيجية أو أمنية بعيدة الأمد؟ وهل تملك الحق في اتخاذ قرارات اقتصادية جذرية كخصخصة القطاع العام؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تتعلق فقط بالجانب القانوني، بل تمس جوهر التوازن بين الضرورة السياسية واحترام الإرادة الشعبية.
تمهيد: المرحلة الانتقالية ومهامها
المرحلة الانتقالية هي الفترة التي تفصل بين سقوط نظام سياسي سابق وبناء نظام سياسي جديد. وتأتي هذه المرحلة غالبًا بعد ثورة، أو انهيار سلطة، أو اتفاق سياسي لإنهاء نزاع مسلح، وتكون مهمتها الأساسية هي ضمان الانتقال السلمي والمنظم من حالة اللاشرعية أو الفوضى أو الاستبداد، إلى نظام شرعي مستقر قائم على قواعد دستورية دائمة.
وتتولى إدارة هذه المرحلة حكومة مؤقتة تُعرف بالحكومة الانتقالية، وتكون مهامها محددة وواضحة، ولا تشمل – في الأصل – اتخاذ قرارات استراتيجية أو مصيرية لا رجعة فيها. من أبرز مهام المرحلة الانتقالية:
- الحفاظ على الأمن والاستقرار وضمان استمرار المؤسسات الحيوية.
- إطلاق عملية سياسية شاملة لكتابة دستور دائم جديد.
- الإعداد لانتخابات عامة حرة ونزيهة.
- إدارة شؤون الدولة اليومية دون تغيير جذري في البنية السيادية أو الاقتصادية.
- التمهيد للمصالحة الوطنية ومعالجة آثار الصراع أو الاستبداد السابق.
ولأن هذه المرحلة تُبنى غالبًا على توافق سياسي هش، فإن الحفاظ على الحياد المؤسسي والامتناع عن التورط في قضايا كبرى محل خلاف يُعد من مقتضيات الحكمة والمسؤولية السياسية.
أولاً: الحكومات الانتقالية والاتفاقيات الاستراتيجية:
تُعد الاتفاقيات الاستراتيجية، وخاصة الأمنية والعسكرية، من أبرز مظاهر السيادة الوطنية. فهي ترسم مسارات طويلة الأمد في علاقة الدولة بمحيطها الإقليمي والدولي، وتؤثر على التوازنات العسكرية والاقتصادية المستقبلية. ولهذا السبب، فإن اتخاذ مثل هذه القرارات يجب أن يتم من خلال مؤسسات دستورية دائمة ومنتخبة تعبّر عن الإرادة الشعبية.
الحكومات الانتقالية، بوصفها سلطات مؤقتة، تُنشأ غالبًا عبر توافقات سياسية أو نصوص دستورية مؤقتة، وغالبًا ما تكون محدودة الشرعية من حيث التمثيل الشعبي، إذ تفتقر إلى تفويض انتخابي مباشر. وفي هذه الحال، فإن إقدامها على توقيع اتفاقيات استراتيجية يُعد تجاوزًا لصلاحياتها، خصوصًا إن لم يكن هناك نص صريح أو توافق وطني يجيز ذلك.
تجارب عززت القاعدة
. ففي السودان، على سبيل المثال، واجهت الحكومة الانتقالية ضغوطًا ورفضًا لأي خطوات ذات طابع سيادي أو أمني طويل الأمد دون توافق بين المكونين المدني والعسكري. أما في ليبيا، فقد أثار توقيع اتفاقات بحرية وأمنية من قبل حكومة الوفاق جدلاً واسعًا حول شرعية هذه الخطوات في ظل انقسام سياسي وغياب برلمان موحد.
الخلاصة هنا أن الحكومات الانتقالية لا تُفوّض عادة بتقرير المصير الاستراتيجي للدولة، وإنما تُكلّف بإدارة المرحلة وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار، ريثما يُعاد بناء الشرعية الدستورية والمؤسساتية.
ثانياً: الخصخصة في ظل البيان الدستوري
مخاطر الخصخصة في المرحلة الانتقالية: إن الخصخصة في الظروف العادية تثير جدلاً واسعًا حول العدالة الاجتماعية، والكفاءة الاقتصادية، وحماية المصلحة العامة، فكيف إذا تمّت في سياق هش مثل المرحلة الانتقالية؟ في هذه الظروف، تتضاعف المخاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية للخصخصة، ومن أبرزها:
- . انعدام الرقابة الشعبية والمؤسساتية: في ظل غياب برلمان منتخب أو مؤسسات رقابية مستقلة، تصبح القرارات المتعلقة ببيع الأصول العامة عرضة للتسرع أو الفساد أو التلاعب.
- تمكين شبكات النفوذ: غالبًا ما تستغل النخب السياسية أو العسكرية أو حتى شبكات رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق ضعف الدولة الانتقالية للاستيلاء على مؤسسات عامة بأسعار زهيدة، مما يرسخ اقتصاد الريع والاحتكار.
- فقدان الأصول الاستراتيجية: بيع قطاعات حيوية مثل الكهرباء أو الاتصالات أو المصارف قد يؤدي إلى إضعاف سيادة الدولة الاقتصادية مستقبلاً، ويحدّ من قدرتها على ضبط السوق أو التدخل لمصلحة الفئات الضعيفة.
- التبعات الاجتماعية: تؤدي الخصخصة العشوائية في كثير من الأحيان إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين، ورفع الأسعار، وتقليص الخدمات، مما يفاقم الفقر والاحتقان الاجتماعي.
- تشويه مسار العدالة الانتقالية: بدل أن تُستعاد أموال الدولة المنهوبة وتُستثمر لصالح المصلحة العامة، قد تتحول الخصخصة إلى أداة لغسل الأموال أو مكافأة المتورطين في الفساد أو القمع.
لذلك، فإن الخصخصة في المرحلة الانتقالية لا يجب أن تُعامل كأداة إصلاح اقتصادي، بل كخطر محتمل على مستقبل الدولة إذا لم تُضبط بقواعد صارمة، ومراقبة حقيقية، وتفويض شعبي واضح. لا تختلف قضية الخصخصة كثيرًا من حيث الخطورة عن توقيع الاتفاقيات السيادية، إذ تمثل الخصخصة – أي نقل ملكية أصول الدولة العامة إلى القطاع الخاص – قرارًا استراتيجيًا لا رجعة فيه في كثير من الأحيان، وله تبعات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة.
في حالات كثيرة، لا تعمل الحكومات الانتقالية تحت مظلة دستور دائم، بل تستند إلى بيان دستوري مختصر يحدد الإطار العام للسلطة. هذا البيان لا يمنح – في العادة – صلاحيات كافية لإعادة هيكلة الاقتصاد أو التصرف بأصول الدولة. وبالتالي، فإن خصخصة القطاع العام خلال هذه المرحلة تُعد مخالفة لمبدأ التقييد المؤقت للسلطة، وقد تُستخدم أحيانًا كذريعة لتصفية القطاع العام أو تمكين شبكات فساد سياسي واقتصادي.
تجربة العراق بعد 2003 مثال حي على ذلك؛ حيث فُتحت أبواب الخصخصة في ظل سلطة انتقالية وتحت الاحتلال، ما أدى إلى تفكيك قطاعات واسعة من الاقتصاد العراقي دون رقابة أو توافق وطني. كذلك، أُثيرت قضايا الخصخصة في مصر بعد 2011، حيث رُفعت دعاوى قضائية لإبطال عقود بيع تمت في العهد السابق أو المرحلة الانتقالية.
وعليه، فإن أي قرار بالخصخصة خلال فترة انتقالية يجب أن يخضع لشروط صارمة، من أبرزها:
- وجود هيئة تشريعية مؤقتة أو توافق وطني واضح.
- شفافية تامة وإشراف قضائي ومجتمعي مستقل.
- حماية حقوق العمال ومنع الاحتكار.
- تقييد بيع القطاعات السيادية أو الحيوية (الكهرباء، المياه، الاتصالات…).
فقرة انتقالية: كما أن توقيع اتفاقيات أمنية أو استراتيجية من قبل حكومات انتقالية يمثل تجاوزًا لمهمتها المحدودة، فإن الخصخصة – بوصفها قرارًا اقتصاديًا مصيريًا – تشكل خرقًا مشابهًا لمبدأ التسيير المؤقت، إذ تُلزم الدولة بترتيبات طويلة الأمد دون تفويض شعبي أو إطار دستوري دائم.
خاتمة: إن فهم طبيعة الشرعية الانتقالية يفرض التمييز بين “إدارة المرحلة” و”رسم المصير”. فالحكومات الانتقالية ليست مخولة باتخاذ قرارات استراتيجية تمس جوهر السيادة أو الملكية العامة دون سند دستوري واضح وتوافق وطني واسع. ومن هنا، يجب على القوى السياسية والمدنية أن تُصر على تضمين أي بيان دستوري أو ميثاق وطني مبادئ واضحة تقيد سلطة الحكومات الانتقالية، وتمنعها من التصرف في القضايا المصيرية، حفاظًا على حقوق الأجيال القادمة وضمانًا للانتقال الآمن نحو الشرعية الدستورية.
توصيات للمجتمع السياسي والمدني:
- صياغة مواثيق انتقالية محكمة: التأكيد على ضرورة وجود بيان دستوري أو عقد سياسي يقيّد بوضوح صلاحيات الحكومة الانتقالية، ويمنعها من توقيع اتفاقيات استراتيجية أو تنفيذ مشاريع خصخصة إلا بعد قيام مؤسسات شرعية دائمة.
- إنشاء لجان رقابة مستقلة: دعم تشكيل هيئات رقابة انتقالية مستقلة تضم ممثلين عن النقابات والمجتمع المدني وخبراء اقتصاديين، لمراقبة أداء الحكومة ومنع التجاوزات.
- تعزيز الشفافية والمساءلة: المطالبة بنشر كل العقود والاتفاقيات التي تُوقع خلال المرحلة الانتقالية، وتمكين الإعلام والمجتمع من مناقشتها ومحاسبة المسؤولين عنها.
- تأجيل القرارات المصيرية: الدعوة إلى تجميد أي خطوات تتعلق بالخصخصة أو التحالفات الاستراتيجية طويلة الأمد إلى ما بعد انتخاب برلمان أو إقرار دستور دائم.
- تثقيف المجتمع بحقوقه الاقتصادية والسيادية: العمل على توعية المواطنين بأهمية حماية القطاع العام وموارد الدولة خلال هذه المرحلة الحرجة، وربط قضايا الاقتصاد بالسيادة والاستقلال الوطني
- وضع رؤية اقتصادية انتقالية مؤقتة: بديلة عن الخصخصة، تركّز على دعم الاقتصاد المحلي، وإنعاش المشاريع الصغيرة، والحفاظ على القطاع العام كمصدر استقرار إلى حين إعادة البناء الشامل.
بهذه الخطوات، يمكن للمجتمع السياسي والمدني أن يوجّه المرحلة الانتقالية نحو إصلاح حقيقي، يحمي الدولة من إعادة إنتاج الفساد أو الارتهان، ويمهّد لبناء شرعية شعبية راسخة وديمقراطية حقيقية.