أرشيف المجلة الشهرية

أدب الانفصال | قصة (رحماك يا دمشق) لسهيل إدريس: حلم المثقف المندثر بمواجهة السلطة

يرى كثير من النقاد أنّ جوهر (العلاقة بين الأنا والآخر هي الخيط النّاسج للنّص الإبداعيّ، وإذا كانت جدليّتها كثيراً ما تبدو مصطنعةً في الخطاب الفكريّ، فإنّ الإبداع يتيح لها من مقومات البناء والصّياغة ما يوسّع إمكانات تصوّرها والتّعبير عنها)([1]).

فالمتابع لحياة سهيل إدريس وإبداعه، سيلاحظ أنّ له خطابًا فكريًّا  تتماهى به أناه مع المحيط أولًا وأفكاره ثانيًا؛ يدافع في أغلب خطاباته عن التيار الوجودي ومن ثم التزامه القويّ بالفكر القومي العربي، هذا ما يبدو جليًّا من خلال القصة التي بين أيدينا المعنونة بـ (رحماك يا دمشق) (2)  والتي صدرت بعد الانفصال بين سوريا ومصر، فالمجموعة القصصية التي تحتوي على كثير من القصص غير رحماك يا دمشق حملت أيضًا العنوان ذاته، وهي تدور حول الأحداث السياسية في التاريخ العربي مثل الوحدة المصرية السورية، وتعكس الأحداث العربية المؤلمة المليئة بالهزائم التي ألمّت بالعالم العربي.

خبر الانفصال للجمهورية العربية المتحدة نزل بشكل فجائي وصاعق على سهيل إدريس وكثيرٍ من القوميين العرب خارج حدود الجمهورية، كلبنان والعراق والجزائر، حيث كانوا يرون في هذه الوحدة جوهر المشروع النهضوي العربي الساعي لتحقيق الوحدة العربية، في رأي إدريس والقوميين أن من سعى للانفصال ودبّر له قد كشف في الوقت ذاتها عن أعداء هذا المشروع الخارجيين والمحليين؛ فخلال السنة الثانية مباشرة من الوحدة، بدت الفرصة أكبر أمام البرجوازية وملّاك الأراضي في الانقضاض على الوحدة ومشروعها في التأميم والإصلاح الزراعي.

وفي العودة إلى القصة فإننا حين ننظر إلى السرد المؤدلج سياسيًّا نستطيع أن تَلمُّس السّلطة الخارج نصّيّة على مجمل النّصّ. “ونستطيع استشعار المؤلّف وحضوره ونسبة كثيرٍ من الأفكار في النّصّ إليه، وليس ذلك صعباً، فعندما يستطرد السارد في الفكرة الواحدة ويقدّمها بإسهابٍ وتقرير؛ نستطيع القول إنّ المؤلّف لم يستطع التّخفّي” هذا ما سيبدو لقارئ قصة (رحماك يا دمشق)، في هذه القصة، تخفت شخصية الكاتب والناشر سهيل إدريس وراء شخصية البطل زياد، وكأن من يقرأ القصة يقرأ خطاب سهيل إدريس بشكل مباشر من دون عوالم تخييلية، وهذا ما جعل القصة أقرب إلى السرد الذاتي والشخصي، فقد اعتمد على المباشرة بشكل كامل في توصيل الفكرة، فكرة توجس البطل من الخبر الذي انتشر حول انفصال الإقليم الشمالي عن الجنوبي، فصار البطل يتخبط حتى فقد أعصابه، وراح يجلس طوال الوقت وراء الراديو يلتقط خبرًا من هنا وخبرًا من هناك، وكل ذلك تجلى لنا من خلال الحوارات المباشرة مع زوجته، التي جعلها الكاتب هنا هي الراوي العليم، لقد استطرد الكاتب في الفكرة الواحدة وقدّمها بإسهابٍ وتقريرية، ولم يتطوّر الحدث فيها إلا من خلال ردّات فعل البطل وما يجري من أخبار عن الانفصال…. وحين تم نفي الخبر من إذاعة الجمهورية المتحدة بصوت جمال عبد الناصر، رجع البطل لحالته الطبيعية بل أصبح سعيدًا… وقرّر مع زوجته أن يذهبا إلى مصيفهما في الجبل كي يريحا أعصابهما مما هما فيه، خارج ضوضاء المدينة وضغط العمل…. إن بطل القصة كان كاتبًا وصحفيّا، وهذا ما أشارت إليه الزوجة الساردة للقصة، مما يدلل أكثر على التصاق شخصية البطل زياد بشخصية الكاتب سهيل إدريس، فنرى الراوي مارس سلطته، فلم يترك الشّخصيّة حرّةً، شارك بشكل مباشر في صنع أحداثها، وهنا يبرز هذا الحضور ويتعزّز ويجعل القارئ في مواجهة السّارد الكلّيّ.  لذلك تبدّى لنا بوضوح اعتناق الكاتب للفكر الناصري ودفاعه عنه بشكل واضح وما يؤكد ذلك هو المعركة التي خاضتها مجلة الآداب في مواجهة الانفصال الذي جعل أوّل حلم وحدة عربيّة في القرن العشرين يجهض، وهذا ما جعل الانفصاليين يمنعون مجلة (الآداب) في سوريا آنذاك.

لكن بعد عدة سنوات  أصدر سهيل إدريس هذه المجموعة (رحماك يا دمشق)، كرد فعل على الذي حصل، وقد أدان فيها الانفصاليين، غير متخل عن تعلّقه بهدف الوحدة العربيّة، وكان هذا ينسجم مع التزامه القومي العربي (الناصري).في أواخر الستينات  ورفض نفق الأنظمة التي اعتمدت سياسة الأفق الواحد ، ممّا حدا بكثيرٍ من الكتّاب إلى الخروج من هذه الأنفاق ورفض الواقع الرّاهن الذي أحكم سطوته على كلّ ما هو ثقافيّ بعد أن أحكم سطوته على مساحات الحياة الأخرى السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

هوامش:

  • صورة الآخر(العربيّ ناظراً ومنظوراً إليه)، مجموعة مؤلّفين، تحرير: الطّاهر لبيب / 38.
  • سهيل إدريس: (رحماك يا دمشق)، قصص، دار الآداب، بيروت: 1965

_________________________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاما على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023

 

زر الذهاب إلى الأعلى