هل ستعرف سوريامسارا عادلا للعدالة الانتقالية؟
هل يمكن تحقيق العدالة الانتقالية في ظل غياب التعددية والتشاركية

رولا سلاخ – العربي القديم
لا يخفى على أحد ما تعرض له الشعب السوري من انتهاكات لحقوق الانسان في زمن حكم الأسد والتي تعمقت مع مرور السنوات علنا وفي الخفاء لاسيما بعد انطلاق الثورة السورية في العام ٢٠١١ حيث ازدادت وتيرة الانتهاكات واشتدت حالة الاستقطاب الحاد مع الانقسام المجتمعي لكن ومع اسقاط نظام الأسد كانت البداية للسير في طريق تحقيق مسار للعدالة الانتقالية لن يكون سهلا على ما يبدو. وهنا تبرز الحاجة لخلق حوار معمق وبناء تفاهمات مشتركة بين مختلف الأطراف بمن فيهم الضحايا وذويهم والنشطاء والخبرات الأكاديمية والحقوقية المختلفة.
كيف؟
في دراسة أعدها مركز وتد لبناء القدرات بعنوان “رؤى مجتمعية في مقاربة العدالة الانتقالية في سورية“، تم فيها التركيز على رؤية المشاركين والمشاركات فيها لمفهوم العدالة الانتقالية ومضامينها الواسعة بوصفها تتجاوز الآليات القضائية وتمتد لركائز أخرى يجب أن تكون حاضرة بقوة في التطبيق السوري وهي المساءلة، جبر الضرر، كشف الحقيقة، والاصلاح المؤسساتي مع التأكيد على الحاجة لمنظومة متكاملة من الآليات لا تقوم بإسقاط آلية على حساب آلية أخرى. ومن خلال هذه الدراسة كما توضح تجلى مفهوم العدالة الانتقالية من منظور المشاركين والمشاركات بمواجهة الماضي والاعتراف بالانتهاكات وانصاف الضحايا في الحاضر وبناء مستقبل يضمن عدم التكرار مع التشديد على رفض اختزالها في منطق الانتقام او عدالة المنتصر والارتكاز على مشاركة المجتمع المدني بوصفه الضامن لمصداقيتها وحاملا لذاكرة الضحايا. وبالتالي فإن طريقة التفكير الجماعية تشكل رافدا مجتمعيا لقوننة العدالة الانتقالية في سوريا عبر تطبيق الاعلان الدستوري الذي قدم العدالة الانتقالية على أساس مجموعة آليات متكاملة تقوم على التشاور ومركزية الضحايا في الاجابة على سؤال كيف؟
هيئة العدالة الانتقالية
بتاريخ ١٧ أيار ٢٠٢٥ أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع المرسوم رقم /٢٠/ الخاص بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والتي تعنى حسبما يذكر المرسوم بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية وجبر الضرر الواقع على الضحايا وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية.
يمثل إنشاء الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية خطوة بالغة الأهمية حملت معها مزيجاً من الأمل والقلق وبعض المخاوف، فإصدار المرسوم شكّل محطة طال انتظارها من قبل السوريين لما قد تتيحه من فرصة لفتح مسار وطني نحو العدالة الانتقالية، ومع ذلك، يثير مضمون المرسوم تساؤلات جوهرية تتعلق برؤية الهيئة وصلاحياتها، ومدى قدرتها على معالجة إرث طويل من الانتهاكات بالقدر الكافي من الشمول والعدالة الضروريين لتحقيق التعافي الوطني أو ربما للوصول الى المصالحة الوطنية، كما تبرز الحاجة إلى التحقق من انسجام هذه الصلاحيات مع مبادئ الإعلان الدستوري من جهة، ومع قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي من جهة أخرى. لكن الأمر الهام الذي لابد لنا التأكد من تحققه هو المبادئ العادلة التي سيرتكز عليها عمل الهيئة وقبولها التعددية والتشاركية حول هذه النقطة يقول عضو منظمة “العدالة من أجل الحياة” محمد طه نؤكد أن الآليات الحالية للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، رغم أهميتها، لكنها تواجه تحديات رئيسية تؤثر على فعاليتها.
وتتمثل السلبيات الرئيسية في ضعف الشمولية والوصول، كما في صعوبة الوصول الكامل إلى جميع الضحايا والمناطق داخل سوريا، مما قد يحد من شمولية التوثيق لذا يجب أن يكون هناك تشاركية وتعددية في آليات عمل الهيئة. أيضا هناك قيود البيئة السياسية حيث أن العمل في بيئة شديدة الاستقطاب قد يمس بالاستقلالية والمصداقية المطلوبة. أما فيما يخص الكفاءة الفنية فهي موجودة، لكنها بحاجة إلى التعزيز بخبرات أوسع في العمل المجتمعي. ويشير طه، إلى أن القناعة بفكرة التشاركية والتعددية هي النقطة الأكثر أهمية لذلك ندعو الهيئة لضمان أن يكون تمثيلها شاملاً لكافة المكونات السورية، وأن يتم إشراك الضحايا والمجتمع المدني بشكل فعال وحقيقي في صياغة كل خطوة لأن العدالة الانتقالية تتطلب الشفافية والتمثيل الكامل.
الخوف من التعددية والتشاركية
منذ اليوم الأول لوصول سلطة الشرع إلى الحكم في سوريا تم تطبيق سياسة الإقصاء والاعتماد على دائرة المقربين في المناصب القريبة من الرئيس، فهل السلطة الحالية تخاف من التعددية والتشاركية؟ وكيف تنظر إلى العدالة الانتقالية؟ بحسب الباحث السياسي والاقتصادي محمد المصري، فإن السلطة الحالية تخاف فعلا من التعددية والتشاركية لأنها تعني بطبيعتها تقليص هيمنتها على القرار السياسي والأمني، كما أن التعددية تعني الاعتراف بوجود أطراف أخرى شريكة في إدارة الدولة، وهذا يتعارض مع فلسفة الحكم الأحادي التي بُنيت عليها المنظومة الحالية. أما التشاركية، فهي تعني إعطاء مساحة حقيقية للضحايا والمجتمع المدني للمطالبة بحقوقهم، ما يفتح الباب لمساءلة السلطة عن الانتهاكات التي ارتكبت خلال السنوات الماضية. ومن هذا المنطلق، يضيف المصري تنظر السلطة إلى العدالة الانتقالية بعين الريبة، وترى فيها تهديدًا مباشرًا لاستقرارها وبقاء رموزها لذلك نراها غالبًا ما تحاول اختزالها في خطوات شكلية أو رمزية، مثل الحديث عن “مصالحة” أو “إعادة إعمار”، دون فتح ملفات المساءلة أو كشف الحقيقة. بهذا المعنى، تُستخدم العدالة الانتقالية في خطاب السلطة كأداة سياسية لإدارة الضغوط، لا كمسار جدي لمحاسبة المسؤولين أو إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
لا تشاركية في القضاء
يرى المحامي عارف الشعال، أن تطبيق العدالة الانتقالية بإجراءاتها المختلفة من (كشف الحقيقة، جبر الضرر، المحاكمات العادلة) له طابع تقني، أكثر منه سياسي، وبالتالي لا يمكن بحسب الشعال أن نعيب على من يباشر هذه الإجراءات، الإقصاء وعدم المشاركة، لأنه لا يمكننا أن نطلب التشاركية بإجراءات المحاكمة وأن يمثل القضاة كافة شرائح المجتمع ومكوناته من حيث التعددية، حتى لا نقع بمطب تسييس القضاة وإفقادهم استقلالهم ، فمن غير المعقول أن نطالب بوجود قاضي مسيحي وآخر علوي وثالث سني، فنطبق التعددية من جهة، وندق إسفيناً بالجهاز القضائي!!
ويضيف الشعال، عند الحديث عن التعددية والتشاركية، يجب أن نقلع عن طرح الشعار الفضفاض وندخل بالتفاصيل، ونجيب عن هذه الأسئلة الصعبة. فما هي التعددية والتشاركية التي نقصدها؟ إن كانت تعددية طوائف وقوميات، فمن هو الذي يحق له تمثيل المكونات المختلفة؟ هل سيمثل المسيحيين بطريرك الطائفة؟ وهل سيمثل شيخ العقل الطائفة الدرزية؟ ومن الذي سيمثل العلويين والأكراد؟ ألا يقودنا هذا المنطق إلى المحاصصة الطائفية والدولة الطائفية وسنغدو مثل لبنان والعراق، أهكذا نريد أن تكون سوريا؟ أما إذا قصدنا التعددية السياسية، فهل لدينا أحزاب وتيارات وقوى سياسية لها ثقلها وتأثيرها ووزنها على الأرض لتتفاوض وتتشارك معها السلطة؟ هذا ليس دفاعاً عن السلطة، وإنما يجب الإقرار أن المجتمع السياسي السوري ما زال قيد التشكل، وقبل أن يطالب بالمشاركة يجب أن يجمع شتات شمله ويكون له وزنه على الأرض حتى يفرض نفسه طرفاً تحاوره السلطة! وبالمقابل يوضح الشعال، أنه لدينا مجتمع مدني جيد وله تأثيره نوعاً ما على الأرض، وعلى السلطة أن تحاوره وتلحظه في ممارساتها وسياساتها، بدليل وجوده الواضح والمؤثر على صعيد تطبيق العدالة الانتقالية.
دون تشاركية.. إقصاء وتهميش
توضح دراسة مركز وتد أن المرتكز الأساسي للعدالة الانتقالية يتجلى في احدى صوره بالمشاورات العامة في بناء مقارباتها نظرا لحساسيتها في ظل مراحل انتقالية حساسة لها أثرها على المجتمعات لأن الممارسة بحد ذاتها تعد مؤشرا على وعي السلطة بأهمية التغيرات العميقة التي تحدثها العدالة الانتقالية في المجتمع ومستقبله وبما ينعكس على الأجيال القادمة وهو ما ترسخ عبر التجارب الدولية الواحدة تلو الأخرى بحيث أن غيابها غالبا ما يؤدي إلى فقدان الثقة بمؤسسات وبرامج العدالة الانتقالية مما يحولها إلى أداة شكلية لا تعالج جذور الماضي الأليم، ذلك أن العدالة الانتقالية ليست مجرد مسارات بل عملية سياسية- اجتماعية متعددة الأبعاد تتطلب اشراك الضحايا والمجتمع المدني والفئات المهمشة في مراحل التصميم والتنفيذ كافة وهذه المشاركة يجب ألا تقتصر بطبيعة الحال على النخب بل ينبغي أن تشمل النساء والشباب والنازحين لضمان عدم الاقصاء وهذا ما تؤكده الأمم المتحدة.
وتشير دراسة المركز أيضا، إلى غياب المشاورات العملية واسعة النطاق واقتصارها في الحالة السورية على مشاورات محدودة وإن كانت نوعية الطابع رغم وجود النص على المشاورات في الاعلان الدستوري يبدو من المهم توسيع نطاق التفكير الجماعي عبر الحوارات والنقاشات الفردية والجماعية من خلال أنشطة المجتمع المدني السوري الأمر الذي يسهم في أن تكون العدالة الانتقالية مشروعا وطنيا لا مجرد هندسة مؤسساتية من أعلى إلى أسفل.
ويبقى السؤال هل يمكن تحقيق العدالة الانتقالية في ظل غياب التعددية والتشاركية كما هو الواقع في سوريا اليوم. يوضح طه أنه لا يمكن تحقيق مسار عدالة انتقالية منصف وعادل للضحايا دون عملية تقوم على التعددية والتشاركية المجتمعية على وجه الخصوص ويجب ان لا يقتصر مسار العدالة الانتقالية على المساءلة القانونية فقط وانما الاعتراف بالضحايا جميعاً وتضمينهم في المسار لضمان العدالة والانصاف لهم وعدم تكرار انتهاكات الماضي، والا ستبقى الآليات الحالية هشة ومعرضة للعديد من التحديات. وهذا يفترض وجود أسس رئيسية لا بد توفرها لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا والتي تتمثل بالشفافية المطلقة لعمل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، واعتماد نهج شامل وغير تمييزي لمسار العدالة الانتقالية كما يجب إشراك هيكلي للناجين-ات، وأسرهم/ ن، وذوي المفقودين/ات والمختفين/ات قسراً بنسبة مؤثرة في صناعة القرار ومشاركة منظمات المجتمع المدني في عمليات التخطيط والتنفيذ ومراقبة مسار العدالة الانتقالية، وضمان الكشف عن الحقيقة حول الانتهاكات وجبر الضرر للضحايا وذويهم ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة. والعمل على اصلاح المؤسسات.
من جهته يرى الباحث محمد المصري، أن تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا يتطلب مجموعة من الدعائم الأساسية من أهمها وجود إرادة سياسية حقيقية من سلطة انتقالية أو قيادة توافقية تعترف بضرورة المحاسبة وجبر الضرر. مع مشاركة الضحايا والمجتمع المدني في تصميم الآليات وتنفيذها، لضمان شرعيتها وفعاليتها. إلى جانب تنوع في الأدوات بحيث لا يقتصر الأمر على المحاكمات، بل يشمل كشف الحقيقة، التعويضات، إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية، وضمان عدم تكرار الانتهاكات. أيضا لا بد من استقلالية القضاء وقدرته على التعامل مع الجرائم الكبرى بعيدًا عن التدخل السياسي. وتوفر الشفافية وإمكانية الوصول للمعلومات لتوثيق الانتهاكات وبناء سردية وطنية صادقة. كما أنه من الضروري حماية الشهود والضحايا والحقوقيين لتشجيع المشاركة وعدم الخوف من الانتقام وهذا يعني وجود إطار قانوني وطني متوافق مع المعايير الدولية يضمن أن تكون العدالة شاملة وليست انتقائية. بدون هذه الأسس، ستبقى العدالة الانتقالية في سوريا شعارًا غير قابل للتطبيق على أرض الواقع.
الحاجة لمزيد من التشاركية
تبذل العديد من المنظمات جهودا في الآونة الأخيرة في مجال تفعيل مسار العدالة الانتقالية لكن علينا ان نتوجه ونلحظ هل هناك تفاعل وتعاون من قبل السلطة مع المنظمات التي تعمل في مجال تطبيق العدالة الانتقالية هل هناك تشاركية حقيقية معهم من قبل الهيئة التي تشكلت او اي جهة اخرى تعمل على هذا الملف.
حول هذه النقطة توضح مديرة برنامج العدالة الانتقالية في مؤسسة اليوم التالي ديما الموسى، ما نسمعه من السلطة والهيئات والجهات ذات الصلة هو أن هناك رغبة بالتعاون مع المنظمات التي تعمل في المجالات ذات الصلة بعملية العدالة الانتقالية، ولكن ما زال التطبيق في مراحله الأولى ولم يصل بعد إلى درجة الشراكة الحقيقية، ما يعني أنه علينا الدفع بهذا الاتجاه والضغط من خلال القنوات والأدوات المتاحة وتقييم التجاوب، وأرى أن هناك ما يمكن البناء عليه، لأن قنوات التواصل متاحة وما زالت مفتوحة، والأهم أن هناك ارادة من المجتمع المدني والحقوقي السوري لدفع العملية بالاتجاه الصحيح. وقد بدأت الهيئات ذات الصلة – الهيئة الوطنية للمفقودين والهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية – بإجراء لقاءات واجتماعات والتعاون مع المنظمات الحقوقية والمنظمات العاملة في مجال العدالة الانتقالية وروابط الضحايا، وهذه خطوة إيجابية، لكنها تحتاج لأن تستمر وأن يكون هناك إشراك في جوانب أخرى مثل تفاصيل العمل ضمن الهيئات والمتابعة والرقابة على العمل والاستفادة من الخبرات الهائلة التي تراكمت خلال السنوات الماضية. باختصار، مستوى التشاركية وإن لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب، إلا أنه يتحسن من خلال اللقاءات المتكررة التي تبني الثقة بين الجهات كلها، حتى بين المنظمات نفسها.
وتضيف الموسى، يجب أن تكون عملية العدالة الانتقالية شاملة في كافة الجوانب ولجميع الأطراف، وكلما كانت أكثر شمولية ووصلت لعدد أكبر من الضحايا والمتضررين، كلما كانت فرصها أعلى في تحقيق العدالة والسلام وأكثر استدامة. الوضع السوري معقد للغاية وجذور المشكلة تعود إلى عدة عقود قبل انطلاق الحراك الشعبي في ٢٠١١، وبما أن العدالة الانتقالية يجب أن تضمن عدم التكرار، فإن ذلك يتطلب العمل على جذور المشكلة. لذلك اليوم من المهم أن يكون هناك مستوى عال من التعددية والتشاركية، في كافة مراحل العملية. لذلك لا يمكن تحقيق العدالة الانتقالية بشكل مرضٍ ومناسب لطيّ صفحة الماضي، ما لم يكن هناك تعددية وتشاركية حقيقية، وانفتاح على أكبر شريحة ممكنة من الشعب السوري، والمتضررين والضحايا على وجه الخصوص.
إعادة إنتاج العنف والانقسام
من الضروري عدم اغفال قضية هامة وهي أن تغييب التعددية والتشاركية قد يدفع ذلك أصحاب القضية لتحقيق العدالة بأساليب بعيدة القضاء والمحاكمة وفق قوانين الدولة وهذا ما يوضحه محمد طه من منظمة العدالة من أجل الحياة أن غياب التعددية والتشاركية ومبدأ عدم التضمين قد يُشعر الضحايا بالإقصاء والتهميش ويفقد الثقة بمسار العدالة الانتقالية مما قد يدفع الى اللجوء لأساليب ووسائل لمحاولة تحقيق العدالة خارج إطار القانون أو مؤسسات الدولة، وهذا يمثل تحدي كبير أمام الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في حال الإبقاء على الاليات الحالية.
وفي ذات السياق، يؤكد محمد المصري بأن غياب التعددية والتشاركية يدفع الضحايا وأسرهم للبحث عن بدائل خارج إطار الدولة والقضاء الرسمي. فعندما تُغلق أمامهم أبواب العدالة، يسعى الناس إلى إيجاد طرق أخرى لاسترداد حقوقهم، سواء عبر لجان محلية، أو مبادرات شعبية، أو حتى عبر أشكال من العدالة الانتقامية غير المنظمة. هذه المسارات قد توفر شعورًا بالإنصاف اللحظي، لكنها غالبًا ما تكون بعيدة عن المعايير القانونية والحقوقية، وقد تؤدي إلى إعادة إنتاج العنف والانقسامات. من هنا تأتي خطورة إقصاء الضحايا والمجتمع من العملية: لأن العدالة ستُطلَب مهما كانت الظروف، وإذا لم تُقدم بشكل مؤسساتي وشرعي، ستُبحث بطرق غير رسمية تزيد من هشاشة المجتمع والدولة. وعندما نتحدث عن التعددية والتشاركية فهي ليست مجرد إجراءات قضائية أو محاكمات، بل عملية مجتمعية وسياسية شاملة تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضمان حقوق الضحايا، وإرساء أسس جديدة للحكم قائمة على العدالة والمساءلة. وبذلك يكون غياب التعددية يعني غياب تمثيل حقيقي لمختلف المكونات، وغياب التشاركية يعني تغييب صوت الضحايا والمجتمع المدني عن صناعة القرار. هذا يؤدي إلى عدالة شكلية أو انتقائية تخدم أطرافًا معينة وتهمش الآخرين. في التجربة السورية، أي محاولة للعدالة الانتقالية بمعزل عن التعددية والمشاركة الواسعة ستبقى قاصرة، وقد تزيد من الانقسامات بدلاً من تجاوزها.