الرأي العام

دلالات وقضايا | ما وراء التَّفاهة

من المهمِّ جداً لنظام التَّفاهة أن يكون له أدواته من المرتبطين عضويّاً معه سرّاً أو علانية

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

حاول المفكِّر الكنديُّ المعاصر آلان دونو في كتابه (نظام التَّفاهة) أن يُشرِّح التَّفاهة أو يفكِّكها؛ ليفهم نشأتها وكينونتها والآليَّة الَّتي أصبحت من خلالها مع موظِّفيها التَّافهين نظامًا قائمًا بذاتها أو جزءًا مهمًّا للغاية من البنية العميقة أو الدَّولة العميقة في النِّظام العالميِّ الجديد، الَّذي راح يتبلور قبل قرنين من الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918) وخلالها، وتشكَّل بعد الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945)، وما زال يتطوَّر مستفيدًا من الثَّورة الرَّقميَّة ومواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وثورة الذَّكاء الصِّناعيِّ الأخيرة. وسرعان ما ظهرت حاجة القادة في النِظام العالميِّ الجديد للتَّافهين؛ ليكونوا أدواتهم في دول العالم كلِّها؛ لا سيَّما دول العالم الثَّالث، وتحديدًا تلك الدُّول الَّتي تشكَّلت خارطتها بعد الحرب العالميَّة الأولى، أو تحدَّدت ملامحها وحدودها بعد الحرب العالميَّة الثَّانية؛ فمن هم التَّافهون؟ وما معنى نظام التَّفاهة؟ وماذا يكمن خلف هذا النِّظام؛ أي ماذا يكمن وراء التَّفاهة؟ ولماذا ينتشر التَّافهون والتَّافهات بسرعة على خريطة العالم كلِّه؟ لماذا ينتشرون كالنَّار في الهشيم في البلدان الأحوج للاستقرار والنَّهضة؟ لماذا ينشطون ويحظون بمتابعات على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؟ وما فائدتهم بالنَّسبة لأكبر اللَّاعبين الدُّوليِّين في النِّظام العالميِّ الجديد؟

ما قبل إنشاء نظام التَّفاهة وتكريسه

أحكم النِّظام العالميُّ الجديد قبضته على خريطة العالم ودوله، وتقاسم الفاعلون مناطق النُّفوذ والخيرات في هذه الخارطة العالميَّة، الَّتي رسموا الحدود بين دولها، وراقبوها، وراقبوا تجاراتها الدَّاخليَّة والخارجيَّة، وأحكموا قبضتهم على كلَّ ما يعبر حدودها، لا سيَّما حدود تلك الدُّول الجديدة أو النَّاشئة بعد سقوط الدَّولة العثمانيَّة، وتأتي سوريا في مقدِّمة هذه الدُّول نظرًا لموقعها الاستراتيجيِّ الرَّابط بين الشَّرق والغرب. ثمَّ احتكرت الدُّول العظمى في النِّظام العالميُّ الجديد أطنان الذَّهب في بنوكها أو مصارفها، وراحت تكرِّس التَّعاملَ بالعملات الورقيَّة بدل التَّعامل بليرة الدَّولة العثمانيَّة الذَّهبيَّة أو (اللَّيرة العصمليَّة) الثَّمينة؛ نظرًا لنُدرة الذَّهب واحتدام الصَّراع العالميِّ عليه؛ وبذلك يكون النِّظام العالميُّ الجديد قد خطا مجموعة من الخطوات المهمَّة والتَّأسيسيَّة الأولى في مجال تكريس نظام التَّفاهة، من خلال احتكار أطنان الذَّهب في بنوك الدُّول العظمى، وإعطاء القيمة الثَّمينة للأوراق النَّقديَّة الورقيَّة الرَّخيصة؛ لتنافس الذَّهب، أو تحلَّ مكانه مع أنَّ الورق أساسًا لا قيمة له، إذا ما قورنت قيمته بقيمة الذَّهب النَّادر، حيث يرتبط ارتفاع الثَّمن بالنُّدرة ارتباطًا وثيقًا؛ فكلُّ نادر ثمين، وكلُّ شيء تنتجه البشريَّة بوفرة، وتعرضه في الأسواق بكثرة يرخص ثمنه؛ بسبب جوهر الاقتصاد القائم على قانون (العرض والطَّلب)، وما غلاء الذَّهب إلَّا لندرته ونفاسته، وقد كان أخطر بند في معاهدة الانتداب بين سوريا وفرنسا-على سبيل المثال-هو إجبار القوى (الوطنيَّة) على التَّعامل بالفرنك الفرنسيِّ؛ وبهذه الطَّريق استطاع التُّجَّار والجنرالات الفرنسيُّون شراء ما يحلو لهم من منتجات سوريا أو سحب خيراتها بأوراقهم أو بعملتهم الوطنيَّة. وقد شكَّل إعطاء القيمة العالية للعملات الورقيَّة، الَّتي لم تكن لها أيَّة قيمة من قبل؛ كالدُّولار أو العملات الرَّقميَّة مثل البيتكوين وغيره من العملات الافتراضيَّة الأخرى بعد خطوة احتكار الذَّهب في بنوك الدُّول العظمى أخطر الخُطا التَّأسيسيَّة والعمليَّة في مجال إنشاء نظام التَّفاهة؛ فصار بإمكان من يطبعون هذه الأوراق النَّقديَّة، ويراقبون حدود الدُّول التَّابعة لهم أن يشتروا، ويبيعوا، ويتاجروا بخيرات الدُّول الأخرى، بل صاروا يوظِّفون التَّافهين من أتباعهم في تلك الدُّول، ويدعمونهم  بالأموال ورواتب العملات الورقيَّة والحوالات الرَّقميَّة؛ كي يكونوا جنودهم وأدواتهم في تلك الدُّول؛ ومن هنا لا نستغرب أن يسعى مواطن يحمل الجنسيَّة الإسرائيليَّة مثل عزمي بشارة-على سبيل المثال-أن ينفق ملايين الدُّولارات على توظيف إعلاميِّين أو كتَّاب أو أتباع له في تلفزيون سوريا، الَّذي يخطِّط لنقل مركزه من إسطنبول للعمل من دمشق داخل سوريا؛ ولو لم يكن مالك هذا التِّلفزيون جزءًا من نظام التَّفاهة العالميِّ الَّذي تحدَّث عنه المفكِّر الحقيقيِّ آلان دونو لما استطاع إنفاق ملايين الدُّولارات؛ لتحقيق مآربه وأغراض داعميه؛ ولو تعب بجمع تلك الملايين من الدُّولارات لما هان عليه إنفاقها بهذا الشَّكل على مقابلة لتلفزيون سوريا مع أندريه اسكاف أو على مقال تافه لهذا أو هراء لذاك أو لتوظيف إعلاميَّة تهذي بسبب أمراضها واضطراباتها أو لمضطربة أخرى تهذي على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ أو لاستضافة فلول نظام المخلوع بشَّار الأسد في بثوث متلفزة ومباشرة من حلب أو دمشق؛ ومن هنا-وعلى مستوى سوريا-لم نعد نستغرب أن تكون مجموعة من محطَّات التِّلفزة والمواقع الإلكترونيَّة المختصَّة أو شبه المختصَّة بسوريا والمملوكة لمواطن غير سوريِّ جزءًا من نظام التَّفاهة العالميِّ، وأن تتعمَّد دعم التَّافهين واستضافة المكوِّعين في سوريا؛ أي أنَّها تتعمَّد تكريس الرَّداءة والتَّفاهة من خلال التَّركيز على أتباع المجرم المخلوع بشَّار الأسد، وتتقصَّد استضافة شبِّيحته ورموز نظامه البائد وأدواته في مؤسَّسات التَّعليم الأكاديميِّ والإعلام وغيرها تحت عنوان رنَّان مثل عنوان على (منظَّمات المجتمع المدنيِّ)، ويعمل على تسويغ مثل هذا العنوان الرَّنَّان لزيادة سطوة التَّافهين في المجتمع مجموعة كبيرة من الموظِّفين المتعاقدين معهم علانية أو بالسِّرِّ من التَّافهين والمهتمِّين بجمع الأموال مقابل تكريس التَّفاهة.

تمرير الرَّداءة وتكريس التَّفاهة عبر الجماليَّات

 يشترك هؤلاء جميعهم بطرح الشِّعارات الرّنَّانة، ويتقاسمون الأدوار؛ ليكونوا أدوات نظام التَّفاهة أو نظام تكريس الرَّداءة ومن خلال مواقعهم أو وظائفهم في الدَّولة الَّتي يعملون بها، لا سيَّما إن كانت دولة مستهدفة مثل سوريا في مرحلتها الرَّاهنة، ومن المهمِّ جدًّا لنظام التَّفاهة أن يكون له أدواته من المرتبطين عضويًّا معه سرًّا أو علانية في الجامعات أو مراكز الأبحاث والوزارات ونقابات الأطبَّاء والفنَّانين والصَّيادلة والمحامين والمعلِّمين وبين المثقَّفين والفنَّانين وأصحاب الجماهيريَّة الجيِّدة وأصحاب النُّفوذ في دوائر الدَّولة المتعدِّدة، ومع مرور الوقت تتحوَّل الرَّواتب أو الدَّولارات الَّتي يتقاضونها سرًّا أو علانيَّة إلى نفوذ حقيقيٍّ أو دولة عميقة، فإن استقطب لهم موظَّف أو باحث متعاون معهم شخصًّا آخر ممَّن يريدون وصوله إلى هذا المركز سيقوى نفوذهم، وهذا يجرُّ ذاك، وذلك يسحب الآخر؛ فتمتدُّ الشَّبكة، ويقوى نفوذها، وتترسَّخ أركان الدَّولة العميقة؛ فيشعر المواطن السُّوريُّ الحرُّ الخارج لتوِّه من ثورة طويلة بشيء من العجز وكثير من عدم التَّغيير في السِّياسات، أو يشعر بتغيُّر الوجوه دون تغيُّر السِّياسات، وقد يتسلَّل اليأس أو النَّقمة إلى نفسه؛ عندما يشعر بصلابة جدار التَّفاهة المحيط به، وعندما يعاني من قوُّة نفوذ التَّافهين المنتشرين في كلِّ مكان.

ويكثر أن يتحدَّث التَّافهون بقضايا الشَّأن العامِّ، ويسهل عليهم الإفتاء أو إبداء الرَّأي فيما يفهمونه ولا يفهمونه، ويتكثَّف ظهورهم على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وعلى شاشات التَّلفزة المختصَّة بصناعة الوهم ونشرِ نظام التَّفاهة أو تكريس الرَّداءة، وإن تحلَّى أستاذ من أساتذة علم الجمال بخصائص التَّافهين أو بشيء منها سيصبح مع منظَّمات المجتمع المدنيِّ حاجة ملحَّة لنظام التَّفاهة؛ لأنَّه عبر الجماليَّات والعناوين الرَّنَّانة يمرُّ كثير التَّفاهات والسَّخافات وقيم الشَّبِّيحة والمكوِّعين الرَّديئة، وإن كان أحد المتعاونين أرعنًا ممَّن يظنُّ بأنَّه قد أحاط بكلِّ شيء خبرًا فهذا واحد من الشُّخوص البارزين للتَّمويل والتَّجنيد في نظام التَّفاهة، وعندما تكثر منشورات أحدهم في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ أو يكثر ظهوره عبر شاشات التَّلفزة أو تنقُّلاته بسبب أو دون سبب بين البلدان، الَّتي ينتشر السُّوريُّون فيها فاعلم عزيزي القارئ أنَّ صاحبنا لم يعد مجرَّد مجنَّد في نظام التَّفاهة، وإنَّما رُقِّي إلى رتبة ضابط أو جنرال من جنرالات التَّفاهة، وصار ممَّن يُعتمد عليهم في تكريس الرَّداءة، وعليه تُنفق الأموال؛ لتغطية تذاكر رحلاته وإقاماته الفندقيَّة وأجور أعوانه وأقربائه وضيوفه ومرافيقه أو مرافقاتها في أسفارها؛ ولأنَّ كثيرًا من السُّوريِّين النُّجباء من أصحاب الحلِّ والعقد أو المهتمِّين بالشَّأن العامِّ لا تخفى عليهم ارتباطات هؤلاء التَّافهين ومصادر تمويلهم وغاياتهم الدَّنيئة يراقبونهم بصمت وعن كثب؛ لا لإعجابهم بهم أو بفرادة علمهم أو مهارتهم في تكريس التَّفاهة والرَّداءة،  وليس بحثًا عن الفائدة من منشوراتهم الممجوجة أو ظهورهم الثَّقيل على شاشات التَّلفزة أو في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ؛ بل ليعرفوا كيف يتحرَّك الجنود والجنرالات في نظام التَّفاهة وتكريس الرَّداءة؛ ولكن…ماذا يكمن وراء هذه التَّفاهة؟

ما وراء التَّفاهة

يكمن خلف هذه التَّفاهة نظام عالميٌّ جديد ظهر منذ مئة سنة تقريبًا، وتبلور خلال قرنين أو ثلاثة قرون من الزَّمن قبل ظهوره في شكله الأخير، لكنَّه تطوَّر، وما زال يتطوَّر، واستفاد، وزادت سطوته خلال الانتقال من التَّعامل بالذَّهب إلى التَّعامل بالعملات النَّقديَّة ثمَّ العملات الرَّقميَّة، كما استفاد من الثَّورة الرَّقميَّة مع سطوة مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ وتنامي الثَّورة الذَّكاء الصِّناعيِّ وكثرة انتشار صفحات التَّافهين المستفيدين منها من أصحاب الغباء الطَّبيعيِّ مئة بالمئة، ولا تتعجَّب صديقي القارئ إن رأيت أكاديميًّا تافهًا أو إعلاميًّا أكثر تفاهة أو إعلاميَّة (سوبَّر تفاهة)! ولا تستغرب أبدًا!  فآلان دونو قبل عقد من الزَّمن تقريبًا كتب عن سطوة التَّافهين وانتشارهم خصوصًا في وسط الأكاديميِّين، واليوم انتشارهم في كلِّ مكان أدهى وأمرَّ، وخَلْفَ أولئك التَّافهين يكمن جشع وطمع شديدان وأنانيَّة وحبٌّ بالظُّهور مع نرجسيَّة وانتفاخ لا نخشى عليها إلَّا من أشواك زهر الرَّبيع السُّوريِّ، الَّذي كشفهم، ونفَّس وينفِّس كثيرًا منهم بين الآونة والأخرى؛ أي أفرغهم من هوائهم وهرائهم ومحتواهم الفارغ، وخلف هذه التَّفاهة هناك ِادِّعاءات بالمثاليَّة وتصنُّع رهيب  ودجل وتمثيل كبيران، لا يعكسان إلَّا انحطاطًا أخلاقيًّا يلبس لبوس الثَّقافة، ويتمظهر بمفردات الأكاديميِّين وعبارات الملتزمين ومصطلحات الجمال وجُمل المهتمِّين بقضايا الشَّأن العامِ، ولا خلاص من أولئك التَّافهين إلَّا بالحذر منهم وعدم الاحتكاك بهم؛ لأنَّه-وفي الغالب، وطالما عرفناهم وحذَّرنا منهم-سيصتدم بعضهم الأوَّل ببعضهم الآخر؛ وبدلًا من أن يحقِّقوا رغبات داعميهم بتحوُّلهم إلى نظام شديد التَّماسك أو بدلًا من تحوُّلهم إلى دولة عميقة داخل دولة سوريا الحرَّة الجديدة سيكشف بعضهم الأوَّل أوراق بعضهم الآخر، ومع مرور الوقت ستنجلي رغوة الحليب، وسيفصح المستقبل عن أبناء سوريا الحقيقيِّين من الغيارى المخلصين والحريصين على مستقبلها لا على مصالح أسيادهم في نظام التَّفاهة العالميِّ، وسيتبدَّد غثاء السِّيل، وسيبقى الزَّبد الفارغ زبدًا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى