الرأي العام

لعدم كفاية الأدلة: ما هو أخطر من الجريمة ذاتها

أخطأ السيد صوفان — أو تعمّد الخطأ — حين صوّر العدالة الانتقالية على أنها عملية مسامحة جماعية بلا تمييز

نوار الماغوط – العربي القديم

في مشهد يُشبه إلى حدٍّ بعيد ما رأيناه في فيلم “لعدم كفاية الأدلة”، حيث ينجو القاتل من الحساب، وتُرمى الضحية في مستشفى للأمراض العقلية، نعيش اليوم في سوريا نسخة أكثر قسوة وواقعية من هذا السيناريو. لكن هذه المرة، القاتل معروف، الضحية تصرخ، والعدالة تصمّ أذنيها عمداً.

خلال مؤتمر صحفي أخير، ظهر أحد المسؤولين عن ملف “السلم الأهلي”، ليعلن وبكل بساطة تبرئة عدد من المجرمين، تحت شعار المصالحة وتجاوز الماضي. لكن ما قيل لم يكن مجرّد عبارات سياسية، بل صفعة موجعة في وجه كل أمّ، وأب، وزوجة، وابن فقد عزيزًا تحت التعذيب أو على يد قناص، أو في إحدى المجازر التي ارتُكبت بدمٍ بارد.

“عدم كفاية الأدلة” هكذا قال السيد حسن صوفان. لكن هل تحتاج جريمة القتل إلى شهادة مختومة حين تكون المقابر الجماعية هي الدليل؟ وهل يطلب المغتصب دليلاً على صرخات ضحيته؟

أخطأ السيد صوفان — أو تعمّد الخطأ — حين صوّر العدالة الانتقالية على أنها عملية مسامحة جماعية بلا تمييز، كأنها “صك غفران” توزعه لجنة السلم الأهلي على القتلة كما توزع الخبز. كلا، العدالة الانتقالية لا تعني مسامحة كل من خدم النظام، بل محاسبة من قتل، من اغتصب، من انتهك حرمة البيوت، من خذل الوطن وخان الدم السوري، سواء كان كبيرًا أم صغيرًا، حاكمًا أم تابعاً.

نعم، لا يمكن محاسبة كل من حمل السلاح، فالكثيرون حُشروا فيه قسرًا، لكن أن يُساوى بين الجندي المجند قهراً، وبين ذاك الذي قتل طواعية وشهوة، فهذه جريمة أخلاقية قبل أن تكون قانونية.

السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح: من منح هذه اللجنة، أو هذا المسؤول، أو هذه الإدارة الجديدة، حق العفو عن القتلة؟ من خوّلهم بالتوقيع مكان أولياء الدم؟ العفو لا يُمنح من لجان، بل من أهالي الضحايا، من الأمهات المكلومات، من الإخوة الثكالى.

كلما أُطلقت يد قاتل من السجون دون محاسبة، نُسف جدار جديد من جدران العدالة. وكلما صُرف النظر عن جريمة بحجة “عدم كفاية الأدلة”، ضُخّ في المجتمع وقود جديد للانتقام والثأر، وسارت البلاد خطوة نحو الفوضى.

بل الأخطر، أن هذا التبرير المهين سيشجع القتلة المستترين على الخروج من مخابئهم وطلب نفس الصفح، مدّعين أن جرائمهم كانت “وجهات نظر” في زمن الفوضى.

السلم الأهلي لا يُبنى على طمس الجرائم، بل على تسميتها، مواجهتها، ومحاسبة مرتكبيها. السلم لا يأتي من العفو العشوائي، بل من إحساس الضحايا بأن هناك دولة تقف بجانبهم، لا دولة تصافح القاتل وتشيح بوجهها عن صراخ الأرملة.

أيها السوريون، إن تجاهل صوت الضحية هو أخطر من الجريمة ذاتها، لأنه يقتل الثقة، يقتل الأمل، ويفتح الباب واسعًا أمام الفوضى والتدخلات الخارجية، تمامًا كما قلتم أنكم تخشون.

في الفيلم، كانت النهاية مأساوية، ولكن مفهومة. الضحية، بعد أن فُقدت العدالة، لجأت إلى القصاص بيدها. أما في الواقع السوري، فالمأساة أنها ما تزال تصرخ، والقاتل يبتسم أمام الكاميرات، ويُطلق سراحه بـ “قرار إداري”.

فيا أيها المسؤولون، لا تجعلوا من “عدم كفاية الأدلة” عنواناً للفصل الأخير في كتاب العدالة السورية. لأن السكوت عن المجرمين لن يُبقي السلم، بل سيؤجج نيراناً لا تطفئها كلماتكم، ولا تخمدها مؤتمراتكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى