وداعاً الخوذ البيضاء: حين تطوي المؤسسات أسماءها وتبقى الرسالة حيّة
الخوذ البيضاء لم تكن يومًا مجرّد مؤسسة. كانت بيتاً. كانت وجوهاً نحفظها، وأصواتًا نعرفها حتى في ذروة القصف

بلال الخلف – العربي القديم
في لحظة يصعب فيها التفريق بين الفقد والتحول، بين نهاية الاسم وبداية طورٍ جديد، أعلن الدفاع المدني السوري – الخوذ البيضاء – حلّ نفسه، واندماجه تحت مظلة وزارة الطوارئ.
هذا الإعلان لم يكن خبرًا عاديًا. لقد كان أشبه بإغلاق فصلٍ طويلٍ من حكايتنا، فصلٍ كُتب بالدم والتعب، بالصرخات في وجه القصف، وبالأيادي التي انتشلت الحياة من بين الأنقاض.
عقدٌ من الزمن، حملته الخوذ البيضاء فوق الرؤوس، لا كشعارٍ فقط، بل كمسؤولية لا ترحم. سنوات من العطاء الصامت، من التضحيات التي لا تُحصى، من الحكايات التي لم تُروَ بعد. وفي الطريق، فقدنا من فقدنا، وعرفنا من بقي معنا، يشدّ أزرنا ويُكمل المسير.
لا أعرف كيف أعبّر عن شعور اللحظة. هل أبكي الاسم الذي رحل؟ أم أحتفي بالخطوة التي قد تفتح بابًا نحو التأسيس والتكامل والاستمرار؟
إنه شعور غريب… مزيج من الحنين والحيرة، من العزاء والفخر، من الذكرى والانطلاق.
الخوذ البيضاء لم تكن يومًا مجرّد مؤسسة. كانت بيتًا. كانت وجوهًا نحفظها، وأصواتًا نعرفها حتى في ذروة القصف.
كانت الشهادة التي حملها أنس الدياب، وجهه الجميل الذي لا يغيب عن البال، وصوت كاميرته الذي كان يسبق الخطر. كانت بسالة أبو كفاح الذي مات غدراً في خط النار لا على أطرافه. وكانت عيون أصدقائي الأحياء: الدكتور أسامة رعدون، ورفيقه عيسى جلول، أولئك الذين ما زالوا على قيد الوفاء، يحرسون الرسالة وإن تبدّلت الرايات.
ولعل من أحقّ الناس بالذكر في هذا اليوم، هو ذلك المدير الإنسان، الرجل الدمث، المتواضع الحازم، الحاضر بصمته وهدوئه في كل لحظة: منير مصطفى.
أنت لم تكن مديرًا فحسب، بل كنت ضمير هذه التجربة، حافظها الأمين، وقائدها النبيل.
اليوم، ونحن نطوي اسم “الخوذ البيضاء” كعلامة، لا نطويها كقيمة. فالذين كانوا يركضون نحو الموت كي يسرقوا منه روحًا… لا يمكن أن يُنسَوا. والذين صنعوا من الأنقاض معنى للبطولة، سيبقون في الذاكرة، وفي وجدان شعبٍ مدينٍ لهم بالحياة.
قد تتغير الهياكل، وتتبدل الأسماء، وتندمج المؤسسات تحت عناوين جديدة، لكن من رفع شعار الإنسانية في وجه الحرب… لن يُمحى من التاريخ.
فشكرًا لكل من حمل الخوذة البيضاء، شكرًا لمن آمن أن الإنسان يستحق الحياة، حتى ولو لم تبقَ منها إلا أنفاسٌ تحت الركام.
سلامٌ على الشهداء، وفخرٌ بالأحياء،
ودعاءٌ بأن تثمر التضحيات دولةً تُشبهكم… نقيّة، شجاعة، إنسانية