سير ذاتية ومذكرات

اعترافات في عيدها العالمي: ثلاثون عاماً من التقصير بحق المرأة!

تسيطر عليّ فكرة أن دمشق صورة لأنثى، وفهم المرأة يبدأ من فهم دمشق

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم

ولدتُ في بيئة شرقية محافظة بشكل مقبول إلى حد ما، وأرفضهُ طبعاً حين كان يصل رفض أهل ميتٍ أحياناً أن يذكر الشيخ عند تلقينه بأن فلاناً ابن فلانة!

مكانة اجتماعية جيدة، ووسط ثقافي لا بأس به ، وفي ظل أحاديث سياسة لا نهاية لها كانت نشأة طفل شقي يفرض الضرائب والعقوبات على زملائه من الأطفال في المدرسة ، ويجمع أصواتهم ويأخذ وعودهم بانتخابه مستقبلاً لرئاسة الدولة، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ كيف ستكون ردة فعل هذا الطفل المدلل إذا كان رافضاً لحقنة في العضل؟!

أنيابٌ حادة عضضتُ بها رسغ يد أمي الجميلة بشراسة ووحشية عندما كانت جارتنا اللطيفة تحاول حقني بإبرة لا أنساها مدى الحياة، وعلى يقين بأنها من اللحظات التي سأشاهدها في ذلك الشريط السريع الذي يُلخِّص عمرنا في دقائق الاحتضار الأخيرة قبل الموت.

هل يسامحني الله وقد اقترفتُ كبيرة من الكبائر؟!

حدقتُ جيداً في عينيها، وأنا أشاهدُ ألماً رآه الطفل أكبر من آلام مسيح مصلوب في صورة وسط جدار الغرفة.

انفجرتُ باكياً أدعوها أن تغفر لي الخطيئة وكل خطيئة، فأخذت تمسح دموعي وتُقبلني وتهوِّن علي بقولها أن العضة لم تكن مؤلمة، بل إنها سعيدة لأنني رسمتُ ساعة على يدها.

ثم كان إدراك الطفل لأسمى معاني الأمن والحماية في لحظات تابع فيها الأخت الكبرى وهي ترفض أن يمس شعره المقص، وتبكي وتلملم ما تناثر من خصلات دائرية شقراء على الأرض، وتخبئها تحت وسادتها.

كانت من المحطات الهامة التي لا يمكن نسيانها في رحلتي لمعرفة المرأة جارة ترتدي ثوب العذراء، وتذهب فجراً لتشعل لي شمعة في الكنيسة، وجارة أخرى تبكي بحرقة غيابي وغياب أبنائها الفارين مثلي من الحرب.

روح ثورية يرافقها تمرد غير مبرر دائماً، تمنح وعياً لا بأس به، وتحاول ربط المرأة بالحب مستبشرة بأمل الهداية للصراط، وتفشل بعد ذلك رغم الإيمان العميق سهام العشق المرسلة من مسيحية وعلوية بتعبيد الطريق، وتارة أخرى تُعلن سهام الكردية والدرزية استحالة وضوح الرؤية وحل المعادلة، وأن المرأة أكبر بكثير من الحب!

كان لا بُدَّ أن أهجر الصورة النمطية للشرق، وأتبنى بعض ما انتشر من أفكار المساواة التي سوقها الغرب، والتي لم يستطع روادها من ترسيخها في عقلية تحتفظ بموروث قبلي لا يسمح لصاحبه بالجلوس في الحافلة أو المترو، ويُجبره على إعطاء مقعده في اللاوعي حتى في البلدان المتقدمة التي ربما تُستغل فيها قيم الشرقي بتهم كالإزعاج أو الخصوصية أو حتى التحرش اللفظي إذا ما طلب من امرأة الجلوس بمقعده عوضاً عن الوقوف.

ساهمت الكثير من الأديبات والفنانات وبعض الناشطات وو.. الخ، في رسم صورة تُساعد الباحث في استيعاب ما أبدعه الخالق في المرأة، ولا أنكر أبداً ما قدمته لي معلمة أو زميلة في العمل أو صديقة في الجامعة أو.. الخ في هذه الرحلة، ولكنني لم أكن أشعر بأنني اقتربت من المعرفة الكاملة لحواء.

هدأت من روعي أحاديث والدي رحمه الله فترة من الزمن، وحققت لي معادلته الرهيبة التوازن بين الشرقي والغربي، وخلقت لي إيديولوجيا وفلسفة خاصة عنوانها العدل، وتتلخص بأن حق المرأة يتجاوز مبدأ المساواة بكثير، واحترامها لا بد وأن يصل لدرجة التبجيل، أو حتى التقديس بعيداً عن المفاهيم الدينية.

مع الأسف عدت لاحقاً للدوران في حلقة مفرغة، وتأنيب الضمير يذكرني باستمرار بحجم التقصير الذي بلغته وأنا على أبواب الثلاثين دون أن أتجاوز عقدة الغيرة الملازمة لي منذ الصغر، ودون أن أعرف المرأة كما يجب!!

بين الحين والآخر كانت تسيطر عليّ فكرة أن دمشق صورة لأنثى، وفهم المرأة يبدأ من فهم دمشق، وحتى وأنا أقترب من منتصف العقد الرابع كان لا يزال نزار قباني يمثل هروباً مقبولاً لي من العجز الذي أشعر به عندما أفقد البوصلة في رحلتي الشخصية لمعرفة المرأة، وفي كل يوم أعود فيه إلى نقطة الصفر أجد نفسي معتكفاً على قراءة (يوميات امرأة لا مبالية) بلهفة في الصباح والمساء، وكأنها من الأذكار اليومية.

يوم المرأة العالمي إبرة مخدر بالنسبة لي، تنجح أحياناً ولساعات معدودة في أن تُنسيني حجم التقصير الذي أشعر به تجاه المرأة، وتحاول عبثاً تلميع صورة العالم الذي ظلم ويظلم المرأة شرقاً وغرباً، ومع الأسف لم يعرفها بعد!

ليست الأيام والتواريخ وحدها التي لا تُنصف المرأة، بل جهلنا في معرفتها حق المعرفة.

أشتاق كثيراً لتلك الشهور التي قضيتها جنيناً في رحم أمي، وأشتاق تلك الراحة التي عشتها لأنني لم أكن حينها أشعر بالتقصير تجاه المرأة.

أكثر من ثلاثين عاماً من البحث، والرحلة مستمرة، وأتمنى أن أعرف المرأة قريباً، وكل يوم وهي بألف خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى