العربي الآن

الشباب السوري والعمل السياسي

إن الشباب السوري لا يملك خبرة سياسية كافية، وربما لا يملكها نهائياً إلى حد ما

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم

لقد كنتُ محظوظاً بأن أتعرف على شخصية جمال عبد الناصر عن كثب، من خلال دراستي العميقة له، والتي تجاوزت مراجعة العشرين كتاباً، بالإضافة إلى مئات الأبحاث والمقالات التي تناولت مختلف جوانب حياته وأفكاره، ومعتمداً في ذلك على مصادر متنوعة ومتعددة. هذا التعمق دفعني إلى أن أكون من أصدقائه في فهمه، وأكثر قدرة على رؤية ما فيه من إيجابيات وسلبيات، وفي هذا السياق، أكرر ما قلته عنه بكل موضوعية: جمال عبد الناصر رحل وله ما له، وعليه ما عليه، وإن كان ما له يفوق ما عليه بكثير.

لا شك أن عبد الناصر قد شكل جزءاً مهماً في تاريخ المنطقة، سواء بالإنجازات التي حققها أو بالأخطاء التي ارتكبها، ورغم أنه قد يكون آخر من أتناول نقده من حكام العرب خلال الفترة الماضية إلا أن ذلك لا يعني مطلقاً أنني لا أسلط الضوء على بعض الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها عبد الناصر في فترات معينة.

من الأمور التي اتفق عليها خصوم جمال عبد الناصر وأنصاره على حد سواء، هي نزاهته وفقره، وأرى أن هذا الأمر قد يكون أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت بعض النخب الثقافية والسياسية في سوريا تُصرح مؤخراً، أو يتحدث الإعلام عن نشأتها في بيئة ناصرية أو الهوى الناصري في أفكارها، رغم اختلاف خلفياتها السياسية، سواء كانت بعثية أو إسلامية سياسية أو شيوعية أو.. الخ، وذلك رغم تراجع شعبية عبد الناصر كثيراً في الزمن الحالي، وأعتقد أن ذلك جاء بالنسبة لبعض هذه الشخصيات كفرصة لتخليص نفسها من أعباء الماضي، وبدء إعادة تدوير نفسها شيئاً فشيئاً في الوسط السياسي الذي تجد صعوبة في التكيف معه ، وذلك لأنها كانت تشغل مناصب قيادية في تيارات وأحزاب إما تم حلها أو لم يعد لها مكان في المشهد السياسي الحالي، وخاصة في ظل التحديات التي يطرحها الإعلان الدستوري الجديد، الذي أثار جدلاً واسعاً بين السوريين، ولم يسمح لهذه الشخصيات بالعودة إلى الحياة السياسية من جديد.

اتفق الرئيسان الراحلان جمال عبد الناصر وشكري القوتلي على حل الأحزاب كشرط لتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، وكان هذا الشرط قاسياً على السوريين وعلى الحياة السياسية في سوريا، وله أثر بالغ فيما آلت إليه تجربة السوريين السياسية، التي كانت فقيرة مقارنة بتجربة لبنان على سبيل المثال.

جاء حزب البعث بعد ذلك بثورته المزعومة و”الحركة التصحيحية” لاحقاً ليُنهِي الحياة السياسية في سوريا بشكل كامل، حيث خنق جميع الأحزاب السياسية في إطار الجبهة الوطنية التقدمية، ونصّب نفسه قائداً للدولة والمجتمع بالدستور، وليصبح الممثل الوحيد للحياة السياسية.

كل هذا أدى إلى ضياع الحياة السياسية، وخلق ضعفاً بالمعرفة السياسية، وجهلاً بممارسة العمل السياسي في سوريا، مع استثناء قلة قليلة من المعارضة التي لم تكن قادرة على فعل شيء يُذكر.

مع بداية الثورة، بدأت تتشكل الأحزاب وتنظم المعارضة صفوفها، فظهرت العديد من القوى السياسية، وتضاعف عددها بشكل كبير ، وظهر بوضوح أكبر بعد سقوط النظام، وأصبحنا أمام عدد هائل من الأحزاب التي تسعى لأخذ موطئ قدم لها في سوريا المستقبل.

الديمقراطية، التغيير، الشباب، وما شابه ذلك، هي العناوين الكبرى التي تستخدمها العديد من الأحزاب، أما أنظمتها الداخلية، فلا شيء أسهل من استيراد نظام يتحدث عن رؤية وأهداف ورسالة تتماشى مع رغبات السوريين، ويكون في النهاية مجرد حبر على ورق.

أقول اليوم إن الشباب السوري لا يملك خبرة سياسية كافية، وربما لا يملكها نهائياً إلى حد ما، فالكثير من هذه الأحزاب مرتبطة بأجندات خارجية وممولة من جهات مشبوهة أو مجهولة، ومن المحزن والمؤسف أن نرى طاقات هائلة وكفاءات شبابية تُهدر في أحزاب لا هم لها سوى مصالحها الخاصة، بعيداً عن نهضة سوريا وهموم الشعب السوري، والأكثر أسفاً هو أن نرى المستقل الواعي والمثقف يبرر انتسابه لأحد هذه الأحزاب بالقول إنه لا مشكلة في ذلك، وأنه يمكنه تركه متى شاء والانتقال إلى غيره، معتقداً أن هذا سيمنحه “خبرة سياسية”، وهنا لا بد أن يعلم شبابنا بأن هذا الترويج عن سهولة الانتساب والتنقل بين الأحزاب وتركها لا يمنح خبرة سياسية، بل يمنح خبرة في التنظيم والعمل الحزبي فقط، وفي الوقت ذاته قد ينسف سمعة المرء السياسية، ولا أدل على ذلك من بعض قيادات الصف الأول في البعث التي لا نزال نستهجنها ونرفض حضورها مستقبلاً رغم انشقاقها عن النظام السابق قبل عقد من الآن.

أفهم تماماً الصعوبات التي يواجهها المستقل في العمل السياسي، وأؤمن بأن الأحزاب هي الطريق لتحقيق الأهداف السياسية، ولكن في الوقت ذاته، ما أعلمه يقيناً هو أن الإنسان لا بد أن يتمهل كثيراً قبل أن يختار الحزب الذي يرغب في الانضمام إليه، ولا بد له من أن يخصص وقتاً طويلاً للبحث في تاريخ مؤسسيه، وتقييم أعماله من كافة النواحي، والإيمان به وبمبادئه، والاستعداد للدفاع عنه وعن كل ما يرتبط به.

قبل أن يتخذ الشاب قرار الانتساب، وعند الانتساب، يجب عليه أن يأخذ فرصته في التأني، وأن يدرس كل جوانب الحزب ، حتى وإن استدعى ذلك وقتاً طويلاً قد يصل إلى سنتين أو ثلاثة.

من وجهة نظري، يجب أن يعتبر السوري انتسابه لحزب بمثابة “زواج كاثوليكي” إن صح التعبير، وارتباطاً لا يقبل التراجع أو الانهزام.

في حياتنا الاجتماعية ننبذ الصورة النمطية الخاطئة التي تُلصق بالمُطلق أو المُطلقة، ونرفضها رفضاً قاطعاً، لكن في الحياة السياسية، نرى أننا قد قبلنا وللأسف طبعاً في بعض الأحيان، نفس الصورة السيئة التي لاحقت سمعة بعض المنتسبين إلى الأحزاب والكيانات السياسية، وأعتقد أن ذلك ذنبهم في أنهم لم يولوا اهتماماً أو اكتراثاً للسمعة السياسية التي قد تظل تلاحقهم لعقود.

ليس من الضروري أن يتضمن اسم الحزب كلمة “ديمقراطي” ليكون ديمقراطياً، ولا يكفي أن يعلن عن التغيير والحرية حتى نصدق ما يقوله، فالكثير من الأحزاب تركز فقط على جمع الأصوات في صناديق الاقتراع التي ستفرضها الشفافية في سوريا المستقبلية، عاجلاً أم آجلاً، ومن المؤسف أن العديد من هذه الأحزاب التي ترفع اليوم شعار الوطنية، لا تمت لها بصلة، ولكنها تحاول الاستفادة من الوطنية كسمة شائعة اليوم بعد أن ارتفعت أسهمها في الأوساط الشعبية والثقافية.

ما أتمناه حقاً هو أن يتخلى السوري عن انتماءاته القومية والقبلية والدينية عند التفكير في خوض تجربته السياسية، وأن يسعى للانتماء إلى حزب يؤمن به ويرى في أعضائه أفراداً من عائلته، قبل أن يتخلى عن استقلاليته، بل من الأفضل أن يبقى مستقلاً إذا شعر بالحيرة أو التشتت، حفاظاً على قناعاته وكرامته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى