الرأي العام

المشهد الأخير من مسرحيَّة مفاوضات إيران النَّوويَّة

لن تخرج الأمور عن السَّيطرة، ولن تخرج عن السِّيناريو المرسوم لها قيد أُنملة

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

(على مشارف جبل في طهران، خامنئي والمفاوض النَّوويُّ في الغرفة الَّتي اُغتيل فيها إسماعيل هنيَّة)

المفاوض: سيِّد خامنئي! مَن هي الشَّخصيَّة الأبرز في إيران لنتفاوض معها من أجل الملف النَّوويِّ؟

خامنئي: أنا.

المفاوض: هل تستطيع الالتزام بما نتَّفق عليه، هل تستطع إقناع رعيَّتك به مقابل فوزك الشَّخصيِّ وفوز وريثك؛ أي ابنك مقتدى ومَن يتبعكما ويقف معكما لقيادة إيران في المستقبل بالإضافة إلى حصولكم على مكاسب المفاوضات؟

خامنئي: نعم!

المفاوض: أنت كرجل دين أو كرجل سياسة أَجِبْنِي بصراحة لو سمحت! أترغب بتحقيق السَّلام والتَّخلُّص من السِّلاح النَّوويِّ أم ترغب بدوام الحرب والمناوشات؟

خامنئي: أرغب بتحقيق السَّلام؛ لكنَّنا أنفقنا كثيرًا من الجهود الدِّيبلوماسيَّة الفارسيَّة ونصف قرن من شقاء الشَّعب الإيرانيِّ وفقره مع كثير من ميزانيَّات سوريا ولبنان وفلسطين واليمن والعراق وكثيرًا من أروح الأبرياء هناك حتَّى وصلنا إلى هذه المرحلة، ولن نحضر جولات جديدة من المفاوضات إن لم يكن ثمنها ونتيجتها توازي تلك التَّضحيات!

المفاوض: أُحيِّي فيك حرصك ونباهتك! قبل الحديث عن الثَّمن أريد منك أن تتذكَّر أنَّنا لن نسمح بوجود السَّلاح النَّوويِّ في إيران؛ إيران ستكون بلا سلاح نوويِّ؛ وستأتي هذه النَّتيجة إمَّا بعد حرب مُدمِّرة تحرق الأخضر واليابس، وتعيد إيران إلى ما يشبه العصر الحجريَّ، أو ستأتي بعد ضربات انتقائيَّة ومحدودة ومدروسة، وستكون-ومن خلال التَّعاون معكم-كافية لتغيير وجه إيران، وسيعقبها رخاء ستكونون أنتم وابنكم مقتدى قادته وقادة المجتمع؛ فأيَّ سيناريو تفضِّلون؟

خامنئي: بالطَّبع نفضِّل سيناريو الضَّربات الانتقائيَّة المحددوة والمدروسة؟

المفاوض: هل أنتم قادرون على التَّعاون معنا لتنفيذ هذا السِّيناريو؟ وبعد ذلك هل أنتم قادرون على تمرير مثل هذا السِّيناريو؟ هل تضمنون سلامة موقعكم وبقاء قيمتكم في إيران خلال تنفيذ هذا السِّيناريو وبعد تنفيذه؟

خامنئي: انظر أيُّها المفاوض! أين نجلس الآن! نحن نجلس في الغرفة الَّتي اُغتيل فيها إسماعيل هنيَّة في طهران بعدما جاء ليبارك لرئيس إيران الجديد حسين بزشكيان بعد مقتل رئيس إيران السَّابق إبراهيم رئيسي بتحطُّم مروحيَّته بظروف غامضة برفقة وزير خارجيَّته حسين أمير عبد اللَّهيان…أريد القول: من استطاع تمرير كلِّ تلك الأحداث دون تزعزع موقعه ومكانته…بل مَن خطَّط لها واستطاع تمريرها وظهر بمظهر البطل بين قومه ألا يستطيع تصناعة أحداث مهمَّة وجديدة؟ ألا تؤمنون بقدرته على تمرير المزيد منها؟

المفاوض: لقد أقنعتني تمامًا سيِّد خامنئي! لكنَّ قوَّتكم اليوم ليست بنفس قوَّتكم بالأمس؛ أعني أنَّكم خسرتم كثيرًا من جنودكم (حماس في فلسطين ونصر الله في لبنان وبشَّار الأسد في سوريا والحوثيّ مكبَّل في اليمن وأتباعكم ضعفاء في العراق)؟

خامنئي: لكنْ أنا اليوم في إيران أقوى ممَّا كنت عليه سابقًا، رئيس إيران الجديد بزشكيان جاء بمباركتي، وحسين عبد اللَّهيان قضى نحبه، وبديله عبَّاس عرقجي يأتمر بأمري!

المفاوض: هل تقصد أنَّ جميع أوراق الملفِّ النَّوويِّ الإيرانيِّ صارت بين يديك؟

خامنئي: لم تصبح كلَّها بالمطلق بين يديَّ؛ لا يزال هناك بعض العلماء النَّوويِّين وبعض ضبَّاط الحرس الثَّوريِّ الَّذين يمكنهم إعاقة مفاوضتي معكم. قديمًا كنت أعتمد على تسويق نفسي في إيران من خلال اللَّعب مع نتنياهو…..نتنياهو يلعب بأوراقه القويَّة وأنا ألعب بأوراقي القويَّة، ونتنازل؛ أي نتصارع بأوراقنا في سوريا ولبنان وغزَّة واليمن والعراق….وبعد المنازلة نتناول الطَّعام، ويدفع أعواننا الفواتير، ويغسلون الصُّحون بعد طعامنا أيضًا، ثمَّ يعلن نتنياهو نصره باللُّغة العبريَّة، ويزيد شعبيَّته في بيئته بهذه الطَّريقة، وأنا أعلن نصري باللُّغة الفارسيَّة، وأزيد شعبيَّتي في بيئة المقاومة؛ لكنَّ هذا السِّيناريو لم يعد متاحًا في هذه الأوقات، لم يعد لدينا أوراق خارجيَّة نلعب بها هنا وهناك!

المفاوض: أنت تريد تقوية نفسك بالدَّاخل الإيراني، لا بدَّ أن تلعب ببعض أوراقك الدِّاخليَّة، يمكنك تحديد خصومك؛ يمكنك تحديد أماكنهم، يمكنك تحييدهم أو مساعدتنا في تحييدهم.

خامنئي: ولكن ماذا سيدفع نتنياهو؟

المفاوض: اترك نتنياهو الآن، نحن نفاوضك على أوراق قوَّتك وعلى مستقبل ابنك مقتدى في إيران، أنت يجب أن تتعاون معنا مقابل هذه الأثمان، اترك نتنياهو الآن بغضِّ النَّظر عمَّا يدفعه نتنياهو الآن أو سيدفعه في المستقبل…سيأتي وقت قريب، وسيصبح نتنياهو عاجزًا عن زيادة رصيده الانتخابيِّ داخل بيئته….الَّذين تضحِّي بهم الآن هم خصومك في المستقبل…نتنياهو وإن بدا منتصرًا عليك الآن لن يجد في المستقبل طريقة يقدِّم بها نفسه لبيئته بوصفه بطلًا منتصرًا…سيبدو فائزًا في جولة صغيرة…لكنَّ خصومه في الدَّاخل سيتقدَّمون عليه في المستقبل القريب!

خامنئي: لقد أقنعتني أيُّها المفاوض…سأعطيك الأسماء والإحداثيَّات، وسأترك لكم شأن المجرم نتنياهو، ولكن لا تصادروا منِّي حقِّي في قتل القتيل والبكاء عليه خلال المشي في جنازته!

المفاوض: لك كلُّ الحقِّ في ترتيب أمورك الدَّاخليَّة واختيار أعوانك وأعوان ابنك مقتدى لقيادة إيران في المرحلة القادمة؛ لكن انتبه إذا اضطررت لمناوشة نتنياهو إيَّاك أن تفعل المحظور! إيَّاك أن تقتل أحدًا من جنوده أو مدنيِّيه! وضعه الدَّاخليُّ لا يستحمل مثل هذه المناوشات، ولا يستحمل دفعَ الثَّمن أو هذه الضَّريبة….

(للحوار ولتطوُّر الأحداث بقيَّة……………).

هامش أوَّل على هذا الحوار

الهامش الأوَّل مخصَّص للَّذين يراقبون المناوشات الإيرانيَّة الإسرائيليَّة، وينتظرون تطوُّراتها بين الحين والآخر، يمكنهم أن يستنتجوا أنَّ كلَّ شيء محسوب حسابه، ويجب عليهم النَّظر إلى المستفيد الشَّخصيِّ من كلِّ حدث قبل الشُّروع بأيِّ تحليل، ويجب عليهم ألَّا يتوقَّعوا شيئًا جديدًا عند كلِّ مناوشة باستثناء مزيد من ذرِّ الرَّماد بالعيون، وبعض الخسائر البشريَّة ذات النَّوعيَّة العالية جدًّا في إيران، والَّتي يمكن لخامنئي تمريرها أو ضبط إيقاع الشَّارع الإيرانيِّ بعد كلِّ واحدة منها، ولن تخرج الأمور عن السَّيطرة، ولن تخرج عن السِّيناريو المرسوم لها قيد أُنملة، بالطَّبع لن تنشب حرب شاملة أو مفتوحة، ولن تبدأ حرب إقليميَّة، ولن يكون هناك حرب طويلة أو قصيرة بين الطَّرفين، وليس هناك ولو معركة حقيقيَّة واحدة، وإنَّما هي مناوشات وتمثيليَّات متَّفق عليها، ومحسوبة النَّتائج، مثل إشعال نار بعد سقوط قذيفة في شارع خالٍ من النَّاس، أو سقوط قذيفة على سقف كرَّاج سيَّارات، أو سقوط قذيفة أخرى على بناية مهجورة آيلة إلى السُّقوط.

وعندما سيحدث أيُّ شيء من قبيل النِّزاع الحقيقيِّ أو المعارك الحقيقيَّة سيسبقه كثير من الإرهاصات والتَّطوُّرات، ولم يحدث أيُّ شيء من هذا القبيل في السَّنوات والشُّهور الماضية، بل على العكس، كلُّ ما يحدث يكرِّس سلطة خامنائي وابنهخ مقتدى من بعده، ولن يحدث نزاع حقيقيٌّ في المدى المنظور؛ حتَّى لا يتوقَّع أيُّ متابع شيئًا من هذا؛ لقد قالها دونالد ترامب بعد خسارته الانتخابات الرِّئاسيَّة قبل الماضية أمام بايدن، لقد قال: إيران كانت تستأذننا قبل ضرب محيط قاعدة عين الأسد الأمريكيَّة في بغداد. إذن، ساسة إيران وصنَّاع القرار فيها مهتمُّون جدًّا بعدم إغضاب أمريكا والغرب، يهمُّهم جدًّا الامتناع عن أيِّ خطوة استفزازيَّة قد تؤدِّي إلى تغيير النِّظام السِّياسيِّ في إيران أكثر من اهتمامهم بهيبة إيران المفقودة أساسًا، باستثناء الجعجعة الفارغة لتخدير الوعي على وسائل الإعلام؛ تلك الَّتي يردِّدها ذباب إيران الإلكترونيِّ بين العرب عن قناعة بها أو يردِّدها بعضهم كببَّغاوات دون أيِّ قناعة.

هامش ثان

يتحدَّث الهامش الثَّاني عن حسنات جولة المناوشات الأخيرة بين نتنياهو وخامنئي، ومن الحسنات الكثيرة لهذه المناوشات أنَّ لاعبيها (نتنياهو وخامنئي) انتقلا إلى اللَّعب داخل إيران بدل اللَّعب على ساحات الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة وغزَّة ولبنان واليمن والعراق، بدأ اللَّاعبان بجولات المواجهة المضبوطة والمرسومة والمباشرة بدلًا من الاكتفاء بمواجهات الكومبارس المحسوب على نتنياهو وخامنئي معًا؛ مثل: (حماس ونصر الله وجنود المجرم المخلوع بشَّار الأسد والحوثيِّ وميليشيات إيران الطَّائفيَّة في العراق)، وقد كان الطَّرفان يتناوشان بالكومبارس، وكلُّ طرف يلعب بأوراقه هنا وهناك، وبعد الانتهاء من لعبة المناوشة، يعلن خامنئي نصره باللُّغة الفارسيَّة، ويبدأ بقطف ثمار نصره المزعوم الجديد داخل إيران، ثمَّ يعلن نتنياهو نصره المزعوم باللُّغة العبريَّة، ويبدأ بقطاف ثمار نصره المزعوم على شكل شعبيَّة انتخابيَّة يستحقُّها بوصفه بطلًا قوميًّا ومنتصرًا في معاركه كلِّها.

الحسنة الآن هي اضطرار خامنئيّ للَّعب بأرواح جنوده وقادة حرسه الثَّوريِّ؛ هم أوراقه الأخيرة، لكنَّها أوراق مفيدة وضارَّة في وقت واحد؛ أي من الممكن أن يشكِّل أيُّ واحد منهم خطرًا على مستقبله ومستقبل ابنه مقتدى من بعده؛ لذلك تصفيتهم أو مقايضتهم واستقدام ضبَّاط جدد تحت عباءة خامنئي وابنه مقتدى أفضل من الإبقاء عليه، وقدرة خامنئي على لعب مثل هذا الدَّور دليل على صلابة كتلته الشَّعبيَّة داخل إيران؛ أمَّا نتنياهو فشعبيَّته ستهتزُّ حكمًا لو خرجت إيران قيد أُنملة واحدة عن هذا السِّيناريو؛ أي سوف تتقدَّم أحزاب المعارضة في إسرائيل على حساب نتنياهو لو فقد بعض جنوده العسكريِّين أو لو سقط بعض الضَّحايا من المدنيِّين؛ لكنَّ إيران لم تفعلها حتَّى الآن، ولن تفعلها؛ وهذا يدلُّ على تبادل المنافع بين نتنياهو وخامنئيّ معًا؛ يعني نتنياهو يريد خامنئيّ على رأس السُّلطة في إيران، وخامنئيّ يريد نتنياهو على رأس حكومة إسرائيل، وما تزال هذه القناعة راسخة حتَّى يخرج أحد الطَّرفين على قواعد الاشتباك المرسومة في هذه المسرحيَّة، وهذا ما لا أتوقَّعه في المدى القريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى