سوريا وامتحان العدالة المؤجلة: ما بعد الحرب لا يعني ما بعد الجريمة
تبقى جذور العنف والظلم كامنة، وتبقى المجتمعات مهددة بإعادة إنتاج الكارثة.

عدي شيخ صالح – العربي القديم
العدالة الانتقالية هي عملية قانونية وسياسية تهدف إلى معالجة آثار الأنظمة الاستبدادية أو الحروب الأهلية أو الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، وتعزيز العدالة والمصالحة في المجتمعات التي مرت بصراعات أو أنظمة قمعية. تمثل هذه العملية أداة أساسية لتحقيق الانتقال من العنف والظلم إلى نظام أكثر ديمقراطية واحترامًا لحقوق الإنسان.
أولاً: مفهوم العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الإجراءات القانونية والغير قانونية التي تُتخذ لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مرحلة انتقالية، مثل تلك التي تحدث بعد الحروب أو تغيير الأنظمة السياسية القمعية. تهدف العدالة الانتقالية إلى تحقيق العدالة للمجتمع بشكل عام وليس فقط للضحايا، وذلك من خلال معالجة ماضي الانتهاكات وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة.
على الرغم من أن العدالة الانتقالية تتضمن القضاء على الإفلات من العقاب عبر محاسبة الجناة، إلا أنها لا تقتصر فقط على المحاكمات، بل تشمل أيضًا إجراءات إصلاحية تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع من خلال الاعتراف بالضحايا وتعويضهم، وكذلك ضمان ألا تتكرر هذه الانتهاكات في المستقبل.
ثانياً: مبادئ العدالة الانتقالية
- المحاسبة:
يُعد محاسبة مرتكبي الانتهاكات جزءًا أساسيًا من العدالة الانتقالية. يجب أن تكون هناك محاكمات شفافة وفاعلة للجناة، بهدف تأكيد أن العدالة لا تُحابي أي شخص بغض النظر عن مكانته أو سلطته.
- الحق في الحقيقة:
يجب أن يعرف المجتمع تفاصيل الانتهاكات التي وقعت، من خلال إنشاء لجان تقصي حقائق تقوم بالكشف عن الأحداث وفضح الجرائم. ذلك يساعد في الاعتراف بالمعاناة، ويُعتبر خطوة نحو الشفاء الاجتماعي.
- التعويض للضحايا:
يتطلب ذلك تخصيص آليات لدفع التعويضات المالية، النفسيّة، أو الاجتماعية للضحايا، بالإضافة إلى إتاحة الفرص لهم لإعادة بناء حياتهم.
- ضمان عدم التكرار:
تعتبر هذه النقطة جزءًا أساسيًا من عملية العدالة الانتقالية، حيث يجب أن تتضمن العملية إصلاحات مؤسساتية، مثل إصلاح الأجهزة الأمنية، القضاء، والتعليم، لضمان أن الدولة لن تعود إلى ممارسات القمع والانتهاك.
- إعادة الإدماج الاجتماعي:
بعض الأنظمة الانتقالية تتضمن برامج للمصالحة الوطنية التي تهدف إلى إدماج الأشخاص الذين ارتكبوا انتهاكات في المجتمع مرة أخرى، في إطار من العدالة والشفافية.
ثالثاً: أهداف العدالة الانتقالية
- . إرساء قواعد السلام الدائم:
من خلال معالجة ماضي الصراعات والانتهاكات، تهدف العدالة الانتقالية إلى بناء سلام مستدام عن طريق تحقيق المصالحة بين مختلف الأطراف في المجتمع.
- استعادة كرامة الضحايا:
هدف أساسي للعدالة الانتقالية هو التعامل مع معاناة الضحايا عن طريق الاعتراف بمعاناتهم، والاعتذار الرسمي، وتقديم تعويضات لهم.
- إصلاح المؤسسات:
من خلال عملية العدالة الانتقالية، تهدف الدولة إلى إصلاح المؤسسات التي ساهمت في انتهاك حقوق الإنسان، مثل الأجهزة الأمنية، والتوجيه نحو بناء مؤسسات ديمقراطية تلتزم بحقوق الإنسان.
- بناء الثقة بين الدولة والمواطنين:
العدالة الانتقالية تسهم في بناء الثقة بين المواطنين والدولة، والتي تهدمها الانتهاكات. تكون آليات العدالة الانتقالية فرصة لتقديم مصداقية من قبل الحكومة والشعب.
رابعاً: آلية عمل العدالة الانتقالية
تتم العدالة الانتقالية عبر سلسلة من الآليات المتكاملة التي تعمل بالتوازي لضمان تحقيق أهدافها. أهم هذه الآليات هي:
- محاكمات قانونية:
يمكن أن تتم عبر محاكم خاصة أو ضمن النظام القضائي العام، ويتم خلالها محاكمة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. هذه المحاكمات تضمن عدم إفلات المجرمين من العقاب.
- لجان تقصي الحقائق:
تقوم هذه اللجان بجمع الأدلة والشهادات من الضحايا والمجتمع، بهدف كشف الحقائق حول الانتهاكات التي جرت. كما يمكن أن ترفع التوصيات الخاصة بكيفية معالجة هذه الانتهاكات في المستقبل.
- المصالحة الوطنية:
تُنفذ المصالحة الوطنية عبر إنشاء آليات اجتماعية ونفسية لتسهيل التواصل بين الأطراف المتنازعة. قد تشمل هذه العملية الاعتذارات الرسمية، اللقاءات بين الضحايا والمجرمين، وتبادل الخطط المستقبلية لبناء الثقة.
- التعويضات:
تقدم بعض الدول برامج تعويضية للضحايا من خلال تقديم أموال، خدمات صحية، تعليمية، أو مساعدة نفسية، وذلك لإعادة تأهيل الضحايا والمساهمة في تيسير عملية الانتقال الاجتماعي.
- الإصلاح المؤسسي:
يتضمن إصلاح القطاعات الحكومية التي كانت متورطة في الانتهاكات، مثل الأجهزة الأمنية، والجيش، والقضاء. الهدف هو إحداث تغيير جذري في هذه المؤسسات لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
خامساً: تجارب مقارنة
- جنوب أفريقيا: نموذج ناجح للعدالة الانتقالية
- السياق: بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، أُنشئت مفوضية الحقيقة والمصالحة عام 1995 برئاسة ديسموند توتو.
- النهج: منح عفو مشروط مقابل الاعتراف الكامل بالجرائم. استمع المجتمع لشهادات الضحايا والجلادين في جلسات علنية.
- النتائج:
- كشفت الانتهاكات وساهمت في المصالحة.
- أعادت الاعتبار للضحايا.
- لم تُحقق عدالة قضائية كاملة، لكنها وفّرت عدالة اجتماعية وسياسية نسبية.
- بقيت بعض الآثار الاقتصادية للتمييز العنصري، لكن البلاد تجنّبت الانهيار أو الحرب الأهلية.
- إسبانيا: العفو بدل العدالة
- السياق: بعد وفاة الديكتاتور فرانكو عام 1975، اختار السياسيون قانون العفو عام 1977، فيما سُمّي بـ”عهد النسيان”، ما حال دون محاسبة مرتكبي الانتهاكات خلال الحرب الأهلية وحكم فرانكو.
- النتائج:
- طُمست الجرائم، ولم تُفتح ملفات الضحايا لعقود.
- تفاقمت جراح الذاكرة التاريخية، وظهرت أزمات هوية وانقسامات سياسية مزمنة.
- رغم تبني قوانين جديدة لاحقًا (قانون الذاكرة الديمقراطية 2022)، لم تُستعد ثقة الضحايا ولا العدالة الكاملة.
سادساً: العدالة الانتقالية في السياق السوري
في سوريا، حيث تعرّض الملايين للقتل والتعذيب والنزوح، لا يمكن القفز إلى “مصالحة وطنية” أو إطلاق سراح المجرمين بحجة “السلم الأهلي” دون محاسبة. مثل هذا التهاون ينسف مفهوم العدالة من جذوره، ويؤسس لثقافة الإفلات من العقاب.
أي مشروع وطني سوري مستقبلي لا بد أن يتبنى عدالة انتقالية شاملة وعادلة، تبدأ من الاعتراف بالضحايا، وتشمل محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وتعويض المتضررين، وإصلاح أجهزة الدولة جذريًا، وصولًا إلى بناء نظام ديمقراطي تعددي يحفظ كرامة كل السوريين.
خاتمة: لا مصالحة بلا عدالة
العدالة الانتقالية ليست رفاهية فكرية أو خطوة سياسية تجميلية أو ترف سياسي، بل هي أساس الاستقرار والسلام المستدام. من دونها، تبقى جذور العنف والظلم كامنة، وتبقى المجتمعات مهددة بإعادة إنتاج الكارثة. العدالة التي تعترف ولا تزوّر، تعوّض ولا تساوم، وتُصلح ولا تنتقم، هي الطريق الوحيد لولادة وطن جديد من ركام الألم.
العدالة الانتقالية هي أكثر من مجرد مجموعة من المحاكمات أو الإجراءات. إنها عملية إصلاحية شاملة تهدف إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي في المجتمعات التي عانت من الصراعات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. من خلال محاسبة الجناة، تقديم التعويضات للضحايا، وكشف الحقيقة، تعمل العدالة الانتقالية على إرساء أسس سلام دائم ومصالحة حقيقية. فبدون العدالة، يصعب تصور بناء مجتمع متماسك يعيد الثقة في مؤسساته ويؤسس لمستقبل أفضل للأجيال القادمة. لا سلم أهلي بدون عدالة انتقالية