طرابلس في عدد العربي القديم الخاص: جهود مميزة في البحث والتحقيق والأرشفة
مطيعة حلاق – العربي القديم
يلفتك عنوان عدد شهر تشرين الأول 2024 من مجلة (العربي القديم): “طرابلس رفيقة الدرب السوري” ويثير الكثير من التداعيات.
حماة- طرابلس… وبالعكس
قبل أن أخوض في تفاصيل موضوعات وتحقيقات كتّاب العدد، فإن العنوان يحيلني إلى تفصيل لا أنساه أبدًا، أنني شخصيًا جزء من تركيبة ضرورية: طرابلس – سورية، حيث كتبت مقالة عن ذكرياتي في مدينة حماة السورية (مسقط رأس والدي)، وحيث ولد ويعيش كل أفراد عائلة والدي، أعمامي وعماتي وأبناؤهم، في المدينة الهادئة الرابضة على كتف نهر العاصي، حيث تشدو نواعيرها على مدار 24 ساعة، ليصل صوت دورانها ليلًا إلى وسط المدينة، حيث بيت جدي، وأتحدث عن فترة نهاية السبعينيات، حين لجأنا إلى بيت جدي مصطفى في حماة، هربًا من الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت على أشدّها في تلك الفترة، فانتسبنا إلى الصفوف الدراسية، وأصبح لنا أصدقاء وزملاء على مقاعد الدراسة، ما زلت أذكر أسماء بعضهم حتى اليوم.
حماة هي المدينة الأولى التي كتبت عنها من زاوية علاقتي الشخصية بها قبل طرابلس: “نواعير الذكريات في مدينة حماة”، هو عنوان تلك المقالة التي نشرت في “السفير العربي”. ذكريات ما زالت تعن على بالي، مثل عنين تلك النواعير الفاتنة التي تزين نهر العاصي، ونواعير حماة هي من أشهر النواعير في العالم على الأقل بالنسبة لي.
تضامن وروابط التآخي
بالعودة إلى عدد “العربي القديم”، الذي يعكس جهودًا مميزة في البحث والتحقيق والأرشفة، فإن عناوين ومحتوى النصوص المنشورة فيه، تعود بطرابلس إلى مناسبات مختلفة تاريخية واجتماعية وسياسية وأمنية، حيث أن الكثير منها يختلط به جميع تلك العناصر (من الأحداث التاريخية الاجتماعية والسياسية والأمنية، وحتى معيشة الحياة اليومية وسواها)، وكلها تربط طرابلس وأهلها بسوريا وأهلها، منذ أن كانت طرابلس- الشام، لا بل قبل ذلك بحقب تاريخية غائرة في القدم إلى يومنا هذا، وتحديدًا علاقة طرابلس بسوريا والسوريين، إبان انطلاقة الثورة السورية في العام 2011.
كما تضمن العدد استعادة نشر بعض المقالات القديمة من مختلف الصحف المحلية والعربية، منذ عام 1926 التي تتحدث عن مختلف الأحداث التاريخية المرتبطة بطرابلس.
تُظهر المقالات تضامنًا، لا بل روابط التآخي بين طرابلس والسوريين على مدى عقود طويلة، والمواقف العروبية الصادقة التي أظهرها الطربلسيون، تجاه القضايا والأحداث الكبرى التي مر بها الوطن العربي خاصة، خلال حكم السلطنة العثمانية، ثم فترة الانتداب الفرنسي، إلى الحرب الأهلية اللبنانية، ثم ما عانته طرابلس على أيدي جيش النظام السوري من اعتقالات أبنائها، وتغييب الكثير منهم، وارتكاب مجازر بحق أحياء طرابلسية بكاملها (مجزرة التبانة عام 1986)، إلى اغتيال الكثير من رجالاتها وشبابها على أيدي النظام السوري وأذرعه في طرابلس ولبنان، مثل اغتيال أبي عربي في شهر شباط من العام عام 1986، وصولاً أخيراً إلى ما سمي آنذاك بالجولات الأمنية، بين عامي 2011 و2014، بين حي باب التبانة – ذي الأغلبية السنية، وحي جبل محسن ذي الأغلبية العلوية، وهما حيان طرابلسيان متجاوران، لا بل متصاهران. وذلك على مدى 21 “جولة أمنية”، سقط خلالها ما يزيد عن المائة شهيد من أبناء الحيّين، جلّهم من المدنيين. تلك الجولات التي اندلعت عشية الثورة السورية، لتكون رسائل أو تهديدات مبطنة لمعظم أبناء طرابلس على خلفية ما أظهروه من تأييد للثورة السورية، ومن دعم وتضامن مع اللاجئين السوريين الذين لجؤوا إلى طرابلس العروبية الحقة خوفًا من بطش النظام السوري.
ماذا أحدثكم عن علاقتي بطرابلس وحماة، بل بسوريا بعد اندلاع الثورة السورية، أصبحت كل سورية حماة كبيرة بالنسبة إليّ، أصبحت أتابع الأخبار كأنني أعيش في سوريا كيف لا، ونحن وعائلة أبي المكلومون بفقدان وتغييب أحد أفراد عائلتنا، وهو في عز شبابه في مجزرة حماة عام 1982.
علاقات دائمة التجدد
لم أفصل نفسي عن طرابلس يوماً، حتى بعد مغادرتها للسكن في منطقة أخرى، كما أنني لم أفصل نفسي عن سوريا، وتعمقت علاقتي الوجدانية بها بعد الثورة، وبعد لقائي بالكثير من الشباب والشابات والأهالي السوريين الهاربين من بطش نظام لم يرحم البشر ولا الحجر، وكانت لقاءاتي بهم يومية، حيث أن قصص معاناتهم كانت ومازالت تؤلمني كثيرًا، وما زالت أواصر الصداقة بيني وبينهم جميعًا مستمرة حتى اليوم، ولو أن الكثير منهم وجد طريقًا جديدة للبدء بحياته من جديد، في مختلف أصقاع الكرة الأرضية وبلادها، يلازمهم شعور فقد الوطن، ولو حققوا نجاحات باهرة في بلاد الاستقرار الجديدة، هؤلاء هم بمثابة أبناء وأشقاء وشقيقات لي.
ختامًا، لا ينتهي الكلام، ولا الحديث عن روابط ورفقة درب طرابلس مع سورية؛ لأن العلاقات بينهما على مختلف المستويات دائمة التجدد، ودائمًا ما يظهر أهل طرابلس هذه الروابط بأفضل الطرق وإلى ما لا نهاية.
في النهاية أود شكر الصديق محمد منصور رئيس تحرير “العربي القديم”، الذي شرفني بهذه المشاركة، ومنحني فرصة الكتابة بما لم أفكر يومًا في الكتابة عنه.
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024