المقابر المجهولة والعدالة المؤجلة: ملف المغيبين في سوريا تحت المجهر
الغياب الذي لا يُفسَّر، والسكوت الذي لا يُبرر، جعل الألم أعمق من الموت ذاته.

علي الجاسم – العربي القديم
أريد أن أعرف إن كان حيًّا أو ميتًا… لا أطلب شيئًا سوى قبر!”
بهذه العبارة تختصر أمّ سورية معاناة آلاف العائلات التي لم تنعم بيوم واحد من الطمأنينة منذ أن اختطف النظام السوري أحد أحبّتها، ولم يُعِده أو يعلن عن مصيره.
المغيبون قسرًا في سوريا ليسوا مجرد أرقام، بل وجوه، وحكايات، وأمهات ينتظرن، وأبناء كبروا دون أن يعرفوا مصير آبائهم.
ما بعد الحرب: سجون فُتحت… ومصائر لا تزال مغلقة:
في أثناء تحرير سوريا، إفراج قوات ردع العدوان عن جميع المسجونين من معتقلات النظام السابق، ظنّت كثير من العائلات أن لحظة الحقيقة قد اقتربت.
لكن الواقع كان أقسى:
الآلاف ما يزالون في عداد المفقودين، لا في السجون، ولا في المقابر، ولا حتى في وثائق السجل المدني.
الغياب الذي لا يُفسَّر، والسكوت الذي لا يُبرر، جعل الألم أعمق من الموت ذاته. فالموت، وإن كان قاسياً، يترك خلفه قبراً وحكاية… أما الاختفاء القسري، فيترك وجعاً معلقاً ينهش أرواح الأحياء دون رحمة.
أرقام صادمة
وفق تقارير أممية ومصادر حقوقية متعددة فقد تجاوز عدد المختفين قسرًا في سوريا منذ عام 2011 (112,000) شخصا، اختفوا على يد أجهزة أمن النظام السابق، ضمن سياسة ممنهجة. بينهم ما لا يقل عن 3,000 طفل ونحو 6,000 امرأة… وتعتبر بعض المنظمات الحقوقية أن هذا الرقم على ضخامته الصادمة، أقل بكثير من الرقم الحقيقي
كثيرون من هؤلاء توفوا تحت التعذيب في ظروف بالغة الوحشية، أو أُعدموا سرًا، أو طُمست آثارهم في مقابر جماعية لم يُكشف عنها حتى اليوم.
صيدنايا… شاهدٌ على أعتى مجازر العصر
في تقرير دولي نُشر عام 2017، وصف سجن صيدنايا بأنه “المسلخ البشري”، بعد توثيق آلاف الإعدامات السرية في زنزاناته.
كانت الإعدامات تتم ليلًا، دون محاكمة، وتُدفن الجثث في مقابر جماعية خارج دمشق.
أقمار صناعية التقطت صوراً لمناطق يرجح أنها تحتوي على مقابر جماعية، لكن دون إمكانية للتحقيق المستقل أو التأكد من أسماء الضحايا المدفونين هناك.
“قيصر”… الصور التي لا تنسى
في واحدة من أكبر فضائح النظام السوري وفظائعه، سرب المنشق العسكري المعروف باسم “قيصر” أو المساعد فريد المذهان، أكثر من 55,000 صورة لجثث معتقلين قضوا تحت التعذيب في معتقلات الأسد، التي سجلت أكبر الجرائم ضد الإنسانية في العصر الحديث
ظهرت في الصور:
وجوه مشوهة، وأجساد نحيلة عانت آثار الجوع والعطش المضني
آثار ضرب وصعق وحروق طالت الأسد بوحشية
وأرقام كتبت على الجباه التي فارقت الحياة بدل الأسماء”
الصور كانت بمثابة شهادة بصرية لا يمكن إنكارها، وأحدثت موجة غضب عالمي ساهمت في فرض قانون قيصر للعقوبات لاحقًا
حين يصبح الانتظار أقسى من الموت:
في أثناء إعداد هذا التقرير، تحدثت مع العديد من أبناء وعوائل المغيبين قسراً، فكان القاسم المشترك بينهم وجعاً لا يشبه سواه.
قال لي أحدهم بصوت مخنوق:
“رغم أني رأيت اسم والدي في سجلات المتوفين… لم استطع أن أقم له العزاء!”
لم يكن وحده…
كثيرون لا يزالون غير قادرين على قول “رحمه الله”، لأنهم يعيشون في فراغ عميق، مشتتين ما بين الأمل الذي لا يموت، والتسليم لقضاء الله الذي لا يملكون دليلاً عليه.
هذه الحالة من التمزق الداخلي جعلت من الزمن عدواً إضافياً لهم فلا يقيمون جنازة، ولا يضعون شاهدة، ولا يسمحون لأنفسهم بالحزن الكامل… أو النسيان.
إنه ألم لا يكتفي بالفقد، بل يسرق من الإنسان حتى حقه في الوداع. “أين قبورهم؟”… تساؤل النساء في كل بيت: قالت لي إحدى الأمهات بحرقة:
“لسنا نطلب المستحيل… فقط نريد أن نعرف أين قبورهم، لنزورها في الأعياد، لنقف عندها ونبكيهم كما يليق بهم.”
مطلب وطني جامع: أكشفوا عن مصيرهم!
مع نهاية كل هذه الشهادات والحقائق، يبقى الصوت الأعلى اليوم هو صوت الأهالي…
من حلب إلى درعا
من القنيطرة إلى الحسكة
من داخل الوطن وحتى الشتات…
الجميع يطالب الحكومة السورية بالتسريع في كشف مصير أبنائها المغيبين
وفتح هذا الملف بكل جرأة وإنسانية ومسؤولية،
لأن العدالة لا تُبنى على النسيان…