الأديب السوري حسيب كيالي في بانكوك
عاد حسيب كيالي إلى دبي كأنه منوّم، مسحور، خاف أن يكون قد فاته شيء من جمالات تلك الرحلة فلم يسجله في دفتر يومياته

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم
كان الأديب السوري حسيب كيالي -رحمه الله- صافي السريرة ناعم الضمير خلي القلب من شواغل الجاه والمال والسلطة، يقترب كثيراً من أهل التصوف في آمالهم وأشواقهم. ونظريته في الحياة واضحة صريحة فهو كسّاب وهّاب. وهذه فلسفة قيمة لمن يُدرك فحواها، وتحتاج إلى شجاعة نادرة في القول والعمل. وقد كان حسيب كيالي شجاعاً في حياته كما في أدبه. سألته مرة في إحدى زياراتي القليلة إلى بيته في حي “السطوة” ديرة دبي حيث كان يسكن على حساب الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في دولة الإمارات العربية المتحدة: ألا تشتاق لزيارة سورية بعد هذه الغربة الطويلة؟ ضحك -أضحك الله سنكم- وقال: لن أعود إلى سورية ما دام “أبو دانات” في السلطة. وكان يقصد حافظ الأسد، وهذا لقبه عند حسيب كيالي، وأهل إدلب من أشطر شعوب الأرض في التلقيب.
وفي جلسة خاصة مع فنجان قهوة في بيته شتاء عام 1993 باح لي بأن ما جاء في قصته “حلاق دبي” من آخر مجموعاته القصصية التي صدرت تحت عنوان: “نعيمة زعفران” ويقصد بها “حميدة نعنع” الكاتبة السورية المغتربة والمتزوجة فرنسياً في باريس، يمسه شخصياً وأن وراء ذهابه في رحلة استجمام من دبي إلى بانكوك هو البحث عن امرأة ترمّ العظم وتُخرج النفس من وحشة ألمت بها. وقد وُفق في مسعاه حيث تعرَّف في بانكوك إلى “مالا” وهي امرأة بوذية في التاسعة والثلاثين من العمر، جسدها مثل الزبدة الغنم، عذوبة في الوجه، أميل إلى السمنة، تخجل مثل بنت الأربعة عشر “ولها هنٌ راب مجسته، وعر المسالك، حشوه وقدُ، فإذا طعنتَ طعنتَ في لبْدٍ، وإذا نزعت يكاد ينسدُّ” تعرَّف إليها من خلال فتاة تايلاندية من أصل صيني التقى بها في دبي وهي في عمر أحفاده. أعطته عنوانها في بانكوك فسافر إليها بعد حين. سألته وهما في بهو الفندق في بانكوك: بابا، ألم تشبك واحدة من فتيات الفندق؟
-كلا -لماذا بابا؟ -أخاف المرض والأطباء الحرمية، فقد ابتلى أحد زملائي في المؤسسة التي نعمل فيها في دبي بوسوسة صحية لجأ على أثرها إلى طبيب اسمه أحمد.
قاطعته: بابا أنت ثرثار.
-لماذا؟
-كنا في شيء صرنا في شيء آخر. أنا أسألك: ألم تتخذ لك صاحبة من فتيات الفندق، يعني “جيرل فريند”؟ فتجيء لي بسيرة لها اول مالها آخر عن طبيب دجال وكمان اسمه أحمد.
-طيب أسألي فلا أخرج عن الموضوع. لم أتدبر أمري لأني أخاف. عرّفيني بامرأة من سن السيدة والدتك، يعني مثلما تقولين في حيطان الأربعين تتناسب مع “باباكي” واياي أعني ابن الستين مبحبحة.
-قُم معي إذن.
-إلى أين؟
-إلى بيتنا.
-لماذا، لتعرفيني بالسيدة الوالدة؟
-لا، الوالدة لها زوج هو أبي وتسكن بعيداً عن بانكوك.
-إذن؟
-جارتي في البيت.
-ما اسمها؟
-مالا.
-توكلنا على الله. حلوة؟
-الآن تراها.
-أرملة؟
-لا، على وشك الطلاق من زوجها.
-لماذا؟
-لم يتفقا.
-لها أولاد؟ صبيان.
-مسلمة؟
-لا، بوذية.
-وزوجها؟
-مسيحي، وأطمئنك، هي عادت لا تحمل.
-والله يا ست “ريتا” ما عندي مانع، وإن كنت أتمنى أن تكون قادرة على أن تجيء لي بصبي.
-لماذا، أليس عندك أولاد؟
-عندي ولد، مشطوط، فإذا حبلت وأنجبت لي ولداً آخر ساقوا الأول إلى العسكرية وخلصت منه.
أخذت “ريتا” حسيباً إلى بيت يجب ان تعبر النهر لكي تصل إليه من الفندق الذي نزل فيه. بيت “مالا” كان نموذجاً للبيت الخشبي التايلندي الأصيل. راقت شخصيتها لحسيب، امرأة أنيسة جميلة فيها من الأنوثة ما يروي الظمأ ويفيض. غرفة “مالا” تقع في الطابق الثاني صعدوا إليها وكانت “ريتا” تقوم بدور المُترجم. لغة حسيب الإنكليزية ليست خيراً من إنكليزية “مالا” يعني شبه لا شيء. ولكن ذكاء فؤاد “ريتا” الرائعة ومعرفة لها قديمة بقليل من الفرنسية جعلتهما يستنبطان لغة ثالثة هي التي استخدماها في سؤال “مالا” إذا كانت توافق على الانتهاء من طلاق زوجها نهائيا والقبول بحسيب زوجاً جديداً. اقترح على “مالا” و”ريتا” أن يذهبوا فيتعشوا عشاء تايلاندياً أو صينياً لا يخلطه خالط ولا ينقصه حتى الشاي بالثلج. “مالا” هي التي ساقت السيارة القديمة المكلثمة وقُبيل المطعم استأذنت “ريتا” التي كانت في المقعد الخلفي أن تنزل لتشتري حاجة عرضت لها. بقي حسيب و”مالا” في السيارة وحدهما. التفت نحوها. كان وجهها مشغولاً. اكتشف أنها غارقة حتى أذنيها في تركيب جُملة بالإنكليزية وُفقت بعد حين إلى قولها: أي أم لاف يو. قال حسيب في شبه صراخ فرح: مي تو، وحياة “مالا”.
في المحصلة لم يكن حسيب كيالي قادراً على البقاء في بانكوك أكثر من أسبوع، فكان “مالا” بد منه، فاتفق و”مالا” من خلال الترجمانة “ريتا” على أن يغيب بعض الوقت تكون “مالا” في هذه الأثناء تعلمت بعض دروس الإنكليزية من كتاب ابنها الصغير. عاد حسيب كيالي إلى دبي كأنه منوّم، مسحور، خاف أن يكون قد فاته شيء من جمالات تلك الرحلة فلم يسجله في دفتر يومياته، فأكب على نقل متفرقات اليوميات واستذكار مالم يكتبه إلى أن وصل إلى وداع “مالا” و”ريتا” والولدين في مطار بانكوك فقد بكى هؤلاء الناس الطيبون وهم يرونه يغيب ذاهباً إلى قاعات الانتظار المخصصة للمغادرين.