فنون وآداب

نصوص أدبية || جمهورية ابن أمِّ صابر

قصة قصيرة كتبها: الأديب السُّوري موسى رحوم عباس[i]

     في القرية الزمن لزِجٌ ومتخثِّرٌ، حركته لولبية، لا يعرف الصُّعود الحاد، ولا النزول المُرعب، ولا يحصل فيه الكثير من الحوادث على خلاف المُدن، يموت رجل من أطراف القبيلة؛ فيصبح موته تاريخًا للأحداث، وكأنَّه بداية التَّاريخ الهجري أو الميلادي، أو انطلاقة الرَّصاصة الأولى في الحرب العالمية الثَّانية، يَقدَمُ ضِيفانٌ من قرية بعيدة؛ فيُولِمُ لهم شيخ العشيرة، أومن يقوم بمهامه؛ فيُخلَّد هذا العشاء في قصيدة تقرُّ في ذاكرة الأبناء والأحفاد، وكلَّما رأوا “مَنْسفًا” مُجلَّلا باللَّحم، تذكَّروا قصيدة الشَّعراء الجوَّالين عيال سليمان  “إيـــه، بالله ! غَدَتْ ما ينعرف ثَريدها مِنْ لحمها”

هكذا نحن أبناء أنصاف البدو وأحفادهم، أما العساكرُ من أبناء القبيلة الذين سيقوا إلى حروبنا الخاسرة، فهم أبطال الملاحم، ومعظم قبور العدوِّ من حصاد سيوفهم؛ لذا لا أرى استغرابك، أوإنكارك عليَّ ما أقوله في محلِّه، ربما أزيل هذه الملاحظة المستفزَّة لاحقًا! ولأنَّ هذه طبيعتنا، أروي ما حصل في مدرسة القرية التي استقبلنا فيها مُعلِّما مختلفا عمَّن سبقوه، صحيحٌ إنَّه حَضَريٌّ وحريصٌ على المبالغة في الوضوء والنَّظافة، لكنَّه قريبٌ من قلوبنا، مُحاوِرٌ لبِقٌ، ويخرج كثيرا عن الكتاب المقرَّر؛ ليروي لنا قصصًا وأساطيرَ جرت في بلاد بعيدة، ينعم أهلها بالحريَّة والأمان، ويحرس جنود الأمير فيها البلاد والعباد، ويُنثَر فيها الحَبُّ على رؤوس الجبال؛ لتنقرَ الطُّيورُ منه “تغدو خماصًا، وتروح بِطانًا”.

 نظرنا إلى بعضنا، همستُ لجاري متسائلًا عن الفرق بين الخِماص والبِطان، لكنَّه قلَبَ شفته السُّفلى، ولم يزدْ على كلمة ” إيش درَّاني” ثم حدثنا عن خليفة أمويٍّ كان يُلقَّبُ بالحِمار! أتذكَّر أنَّني انفجرتُ ضاحكًا، فتبعني الآخرون، حتى إنَّ عليًّا ابن شيخ الجامع سقط تحت المقعد من شدة الضَّحك، وهو يصرخ، خليفةٌ وحمار! والله “ما تِرْهَم يا ستاز” ضحك الجميع، عدا جويسم ابن سائق التَّراكتور، أو جاسم العليوي حسب سجلَّات المدرسة، وهو عريف الصَّف الذي يُسجِّل أسماء المشاغبين للإدارة، أو الذين لا يسمحون له بأنْ يكون حارسًا، أو مهاجما في كرة القدم وفقا لرغبته التي تتبدَّل كلَّ يومٍ، وأحيانا يسجِّلُ اسم كلِّ مَنْ لا يجعلُ له سهمًا في طعامه أثناء الاستراحة التي كنَّا نسمِّيها ” الفُرْصَة” وكلُّ هؤلاء مشاغبون، يستحقون الدخول في قوائم جويسم، لم يغضب الأستاذ مُنذر العايش من الفوضى التي أطلقتها تلك المعلومة عن الخليفة الحمار، بل توسَّع في شرح مناقبه، قائلا، هذا مروان بن محمد الذي قيل عنه: ” أصبر في الحرب من حِمار” وكان شجاعًا وداهيةً من دُهاة العرب، واستطرد كعادته، وكانت العرب تسمِّي الحِمار بأبي صابر، نظرنا إلى بعضنا مستنكرين اللَّقب، وهل للحمار ابنٌ، واسمه صابر، كتمنا ضحكاتنا، فما ” كل مرَّة تسلم الجرَّة” و ” العصا لمن عصى” ضاعت الكلمات الأخيرة للمعلم وسط سُعال جويسم وحشرجته، كان سعالًا شديدًا يشبه العُواء، توقَّف المعلِّم عن استطراده مفسحًا بالمجال لهذا الطِّفل المريض، حتى هدأ؛ فسأله عن مرضه؛ فأجاب إنَّه مصاب ” بالعَوَّاية” صحَّح له المعلِّم، هي السُعال الدِّيكي، يابني، وكان عليك البقاء بالبيت حتى لا تصيب العدوى زملاءك، فحمل كيس كتبه الذي يشبه الحقيبة القماشية التي تخيطها أمهاتنا في أول العام الدِّراسي، وهو طقسٌ سنويٌّ، مع حلاقة الشَّعر، وقصِّ الأظافر.

حضر جُويسم بعد عدة أيام، يبدو أنَّه تعافى، سأله المعلِّم عن العلاج الذي تلقاه، والطَّبيب الذي عالجه؛ فأجاب متلعثمًا مع التأتأة التي اعتدنا عليها، ولم نعدْ نلقي لها بالًا.

  • لم أذهبْ إلى أيِّ طبيب، يا أستاذ.
  • ولكنَّك ما شاء الله، تحسنتَ كثيرًا!
  • عالجتني أمِّي.
  • هااه ! أمُّك طبيبة؟

ضحكنا من سذاجة المدرِّس الذي يظنُّ أنَّ في قريتنا امرأة طبيبة! ولا يعرف أنَّ أمِّ جُويسم امرأة يخاف منها الرِّجالُ لبأْسِها، وقد أدمتْ رأس سائق التراكتور زوجهاغير مرَّةٍ في شجاراتهم الكثيرة، أوضح جُويسم بصعوبة أنَّ أمَّه جلبتْ له حليب حِمارة الجيران، فشربه صباحا ومساء لثلاثة أيام؛ فكان الشِّفاء، عندها صحتُ بصوتٍ تختلط فيه القهقهة والصُّراخ، هذا ،يا أستاذ، صابر بن أبي صابر الذي حدثتنا عنه، ساد الصَّمت والذُّهول لدقيقة وربما أكثر، حينها همس معلمنا، لا يجوز يابني السُّخرية والتَّنابز بالألقاب، ثم صمتَ قليلًا، محاولًا إخفاءَ وجهه بالنَّظر إلى أسفل مكتبه،  ثمَّ انفجر ضاحكًا مقهقهًا، وهو يردِّد صابر بن أبي صابر وأم صابر!  وحين مَطَّ الألف بصوته المتهدِّج، عندها علا النهيق من كلِّ زوايا الغرفة، وتمادى بعضهم بقوله لجويسم: الآن صرتَ وجَحْش جيرانكم الوليد إخوة في الرَّضاع!

        لم يعدْ ابنُ أمِّ صابر، وهو الاسم الذي حمله بدءًا من تلك الحصَّة لعشرات السِّنين لاحقًا، لم يعدْ إلى القرية بعد تخرُّجِهِ في كليَّة الحقوق بجامعة دمشق،  حتى عندما توفي أبوه سائق التَّراكتور لم يبقَ سوى الأيام الثَّلاثة لتقبُّلِ العَزاء، وكان يخلط لهجتنا الرِّيفية بلهجة أهل العاصمة، مما أثار استغراب جيرانه وأبناء عشيرته، لكنَّ الموقف موقف عزاء، لا يحتمل عتابًا أو تقريعًا، غادر مساء اليوم الثَّالث بسيَّارة مخفر الشُّرطة التَّابع للمركز، وقد وضعت في خدمته مع سائقها – كما قال – طيلة أيام العزاء، حدَّثنا عن مكتب المُحاماة الذي افتتحه في العاصمة، لكنَّه اعتذر عن أيِّ توكيل، فهو يعمل فعليًّا في قيادة الفرع، والمُحاماة هي لنيل اللَّقب، وحسب، تهامس الحاضرون عن وظيفة الفرع هذا! لكنَّه لم يمنحنا سوى القليل من التَّأتأة التي لا زالت تمسك بلسانه، وبخاصَّة حين يكون قلقًا أو متحفِّظًا.

    كتب لي رسالة بخطِّه النَّاعم الذي أعرف حرصه على التَّبويب والتَّنظيم والمُقدِّمات المُركَّزة، أرسلها مع عبد المنعم ابن عمِّي الذي يؤدِّي الخدمة العسكريَّة في القُطيفة القريبة من الشَّام، يقول: إنَّنا أبناء الرِّيف لا نملك المصانع، ولا الأموال التي يملكها أبناء المدن، وحتى شهاداتنا لا تطعمنا سوى الكفاف، فمن أراد الصُّعود لا بدَّ له من نظام الحلقات والأحزاب، تلك التي يزهد بها أبناء التُّجار وأثرياء المدينة؛ لذا سلكتُ هذا الطَّريق، قد أكونُ دستُ على رؤوس كثيرة، لكنَّني وصلتُ! الحِزْبُ هو الظَّهر لمن ليس له ظَهْر، ليتك تأتي إلى مكتبي، وترى بأمِّ عينك الحراسات التي ترافقني، ويمكن لك التَّطوع في الفرع الذي أشغل فيه منصبًا مرموقًا؛ لتكونَ شاهدًا على وصولي! وعينًا لي على المُنافسين، ومن يتحيَّنون الفُرصَ للإيقاع بي.

عندما عادتْ زوجته، وهي أوَّل فتاة من قريتنا تنال الشَّهادة الابتدائيَّة، عادت مُطلَّقةً تصحب طفليها إلى بيت أهلها، لم تذكرْ سبب طلاقها، اكتفتْ بالصَّمت، أو الإجابات المُقتضبة، لكنَّ النِّساء لا يقرُّ لهن قرارٌ، حتى يعرفْنَ سرَّ الأسرار، بأنَّ الرَّفيق جاسم العليوي لم يعد يرضيه أنْ يعيش مع ريفيِّة لا تتقنُ دور ” السَّاقي ” و” النَّديم” فكان يحضر النِّساء إلى بيتها، دون اكتراث لمشاعرها، بل يسخر منها عندما ألقت بزجاجات العَرَقِ التي كان يحضرها له المرافقون بعد العودة من إجازاتهم إلى حاوية القمامة، وفي الآونة الأخيرة لم يعدْ يأتي للشقَّة إلا لِمامًا، سمعتْ أنَّه يملك فيلا في مزارع الصَّبُّورة بعيدا عن ضوضاء المدينة، وكانت تراه على شاشة التِّلفزيون مُحلِّلًا وشارحًا للنهضة التي تنتظر البلاد، والمذيع يستحثِّه مُتبرمًا على إكمال جملته المتعثِّرة.

  بعد عودتي إلى القرية من الرِّياض التي أعمل بها خلال إجازة لم أعدْ أذكرها، وبحضور شِلَّة الأُنْسِ كما كنَّا نسمِّيها منذ عشرات السِّنين…، كان التِّلفزيون الحكوميُّ وفي أخباره العاجلة يذكر أنَّ الجهات الأمنية ألقتِ القبضَ على الرَّفيق جاسم العلَّاوي ضمن خلية المؤامرة على القيادة، وعدَّدتِ المذيعة تُهمًا كثيرة منها الفساد وتسريب المعلومات الحسَّاسة، … ساد الصَّمت، غيمة من الانتظار والتَّرقب، لكنَّه سرعان ما انطلقتْ ضحكاتنا وقهقهاتنا في اللَّحظة نفسها التي بدأها عليٌّ ابن شيخ الجامع بالنَّهيق، ثم توقف هنيهة؛ ليرفع طبقة صوته إلى أعلى جوابٍ يمكنه الوصول إليه في نهيقٍ متواصلٍ، وقد استلَّ قلمه الخَطَّاط الذي لايفارق جيبه؛ ليكتبَ لوحة بخطِّ الثُلُثِ، يقول فيها” عاشت جُمهورية ابن أمِّ صابر” ووقَّعها باسم مُنذر العايش، معلِّمنا الذي توفاه الله منذ سنوات عديدة، فالأمواتُ لا يدافعون عن أنفسهم، ولا يخافون الاعتقال.

                                                                                   مملكة السُّويد

                                                                                      2024  


[i] الأديب السوري موسى رحوم عباس : روائي وقاص وكاتب  مقيم في مملكة السويد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button