تقرير لجنة تقصي الحقائق: بين إدانة للأفعال والسكوت عن الفاعل
اللجنة اكتفت بالتوصية، دون إدانة صريحة.. اقترحت إصلاحات، من دون تحميل مسؤولية واضحة.. تكلّمت عن محاسبة من دون أن تسمي أصحاب القرار

سامي زرقة – العربي القديم
تسلّم الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع التقرير النهائي للجنة تقصّي الحقائق بشأن مجازر الساحل، ومعه انكشفت أوراق طال إخفاؤها، واختلط الحبر بالدم، وانقلبت دفاتر الضحايا على طاولات السياسيين.. لكن وسط أرقام موجعة وأسماء مغيّبة، يلوح في الأفق سؤال معلّق، تقف عليه أخلاق الدولة ومعايير العدالة: هل جاء التقرير لإدانة القاتل.. أم لتأبين المقتول؟
اللجنة، التي تكوّنت من قضاة وضباط وقانونيين، حملت وعداً بالإنصاف.. غير أن المراقب المتبصّر لا يحتاج إلى كثير جهد ليدرك أن التقرير، وإن زخرف صفحاته بلغة حقوقية رصينة، بقي أسير التوازنات السياسية أكثر من كونه وثيقة عدلية تجرّم فاعلاً وتستعيد حقاً.
لقد بلغ عدد الضحايا أكثر من ألف وأربعمئة روح، جلّهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، ودوّنت الشهادات والمواقع بدقة لا يُستهان بها.. كل ذلك مشكور.. لكن، ما الفائدة من عدّ القتلى إذا ما بقي القاتل في الظل؟ وما معنى تعداد الانتهاكات دون أن يُقال بوضوح: من أمر؟ ومن نفّذ؟ ومن تستّر؟
اللجنة اكتفت بالتوصية، دون إدانة صريحة.. اقترحت إصلاحات، من دون تحميل مسؤولية واضحة.. تكلّمت عن محاسبة، من دون أن تسمي أصحاب القرار.. وكأن الضحية هنا مجرّد رقم في نشرة، لا صاحب دمٍ يصرخ طالباً العدالة.. وما أشدّ المأساة حين يكون الضحية معروفاً والقاتل محمياً.. باسم الدولة ذاتها.
تقرير لجنة تقصّي الحقائق، بهذا الشكل، بدا أشبه بمرآة مكسورة: تُظهر الحقيقة متشظّية، مقطّعة، تتفادى الزوايا الحادة حيث تقع الحقيقة السياسية.. لقد دانت اللجنة الجريمة، لكنها لم تدن النظام الذي هيّأ المسرح وأغلق الستار.. وبينما طالب الحقوقيون بمحاسبة علنية ونشرٍ كامل، خرج علينا التقرير مغلفاً بالضباب، لا يُبصر فيه إلا من قرأ بين السطور.
وما زاد الطين بلة، أن تسليم التقرير تأخر، وأن بعض الشهادات اختفت، وأن بعض الأسماء -وهي الأهم- لم تُدرج.. فكيف نثق بلجنة تطالب بالعدالة ولا تُسمّي الجلاد؟ كيف نُعوِّل على تقرير لا يفتح باب المحكمة، بل يوارب بوابة النسيان؟
العدالة لا تكتمل بمجرد التوثيق، بل تبدأ بالمواجهة وتنتهي بالمحاسبة.. أما تقارير تُغرقنا في التفاصيل من دون أن تُشير بأصبعها إلى المتسبّب، فهي أشبه بمرثية رسمية، تليق بالمقتول أكثر مما تُدين القاتل.
فليُسأل أصحاب التقرير: هل كتبتم لتطمئنوا العالم.. أم لترضوا المجرم؟
هل رفعتم الحبر باسم الحقيقة.. أم لتطووا بها صفحة المأساة بلا عقاب؟
الزمن قد يُسامح، لكنه لا ينسى.
والتاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط، بل يُعيد كتابته كل من يصرّ على الحقيقة، حتى لو كُتب عليه أن يُقتل مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بصمت العدالة.