إدلب.. حكاية مدينة بين زمنين
مرهف دويدري – العربي القديم
قبل عدة أيام فقط، مرّت ذكرى خروجي من مدينتي، تلك المدينة التي كانت في وقت ما واحدةً من أكبر مشكلاتي التي أحاول الهروب منها، ثمّ تحوّلت لاحقاً لتصبح أحبّ الانتماءات إلى قلبي. زمنان، بينهما برزخ نقلني من مكان، كان يعني لي جميع أشكال الموت التي يمكن أن تغتال أحلاماً وأفكاراً، ومشاريع لشاب في مقتبل العمر، إلى حياة فيها كل شيء له طعم الحرية والبوح بأحلام مستقبل بلا استبداد.
في الذاكرة التي قد تكون بعيدة إلى حد ما، وبالتحديد في اليوم الأول من شهر آب/أغسطس لعام 1994 كان الحلم كبيراً ومزهراً، حيث استطعت أنا، وبعض أصدقائي إصدار مجلتنا الثقافية التي أطلقنا عليها اسم (شعاع الشمس)، والتي كانت عبارة عن خرق رهيب للاستبداد السياسي -الذي لم نقدّر عواقبه آنذاك- وخرق للمحيط الاجتماعي الذي كان يسخر منّا، ويعتبرنا (مهابيل)، عبر الكثير من عبارات: (هل للثقافة مكان هنا؟ يا دوب الناس عم تطالع لقمتها)، وبطبيعة الحال يقصدون مدينة إدلب التي حوّلها نظام الأسد الأب إلى صحراء- رغم أن اسمها إدلب الخضراء- فلا التجارة بخير، ولا الصناعة. كانت أجهزة الأمن المتعددة تحصي أنفاس أهلها، عبر عدد كبير من “المخبرين” الذين هم من داخل السلك الأمني، أو ممن يتطوعون لكتابة التقارير؛ بغية التقرب من هذه الأجهزة، حيث كان إفقار المحافظة بشكل عام، ومدينة إدلب بشكل خاص، أسلوباً ممنهجاً اتّبعه نظام الأسد، على خلفية إهانة (حافظ الأسد)، إبّان ترشحه للرئاسة، بعد الاستيلاء على الحكم عبر انقلاب 1970.
كنا نكتب مجلتنا (شعاع الشمس) التي تصدر بشكل شهري بخط اليد، حيث كان صديقنا ماهر صاحب خط جميل جداً، وهو من تولى عملية الإخراج الفني، ونطبعها على آلة نسخ المستندات على نفقتنا الخاصة، ونرسلها للأصدقاء ممن شاركوا ببعض المواد الأدبية (قصة – شعر – خاطرة – مقال أدبي) من سوريا، وعدة دول كان أهمها مصر، والأردن، كما كنّا نرسلها على نفقتنا الخاصة، حيث أنشأنا هيئة تحرير للمجلة، على الرغم من أنّ عددنا لم يتجاوز الخمسة مساهمين، وخصّصنا صندوق بريد؛ لتسهيل مراسلتنا، في تلك الأيام ونحن في التاسعة عشرة من أعمارنا. كنا نحلم بمجلة عريقة، كتلك المجلات التي كانت تصدر في منتصف القرن العشرين، والتي أفرزت أسماء كبار الكتّاب والمفكرين، لكنّ الحلم لم يكتمل.
مع بداية عام 1995، وكنت قد اعتدت قراءة الصحافة اليومية، عند أحد الأصدقاء الذي يكبرني بعشر سنوات، في ذلك اليوم التقيت بشخص أراه للمرة الأولى هو شاب في أواخر العشرينات (دمث ومحترم)، كما يظهر لك للمرة الأولى، وقد بادلني الحديث عن الصحافة، والأدب، والقصة القصيرة بشكل خاص، دون أن يخصص أي حديث يجعلني أحذر منه، تكرّرت لقاءاتنا عند الصديق (حسن)، وبالتزامن مع إصدار هيئة تحرير المجلة للعدد الخامس، والذي كان آخر عدد من المجلة يُرسل للأصدقاء، داخل سوريا وخارجها، ومع كلّ لقاء كان يدور بيننا، كان الحديث يقترب من حياتي الخاصة أكثر فأكثر، ثم وبشكل مفاجئ قال لي: (مجلة شعاع الشمس جيدة وغنية بموادها). صعقت يومها، فمن أين له أن يعرفها، وهي ليست للعموم؟ سألته عن ذلك، ضحك، وقال لـ(حسن): (على ما يبدو لم يربط بين الأمور)، لكن صديقي أفهمني أن هذا الشاب (الدّمث) رقيب أول في الأمن السياسي، وهم على اطلاع تام على المجلة، ويقرؤونها بعد إرسالك لها في البريد، ويعرفون تماماً ما يحدث من نقاشات في جلساتكم لإقرار مواد المجلة، على ما يبدو أن بينكم من ينقل كل شيء، بطبيعة الحال كان هذا الحدث كافياً، لقتل أي حلم يمكن أن تفكّر به.
على الرغم من اغتيال الحلم الذي كنت، ومازلت أراه أجمل حدث في حياتي، إلا أنه حفّز لدي التمرد، عبر كتابة القصة القصيرة والمسرح، في كل مرة أحاول أن أقبض على عنق الاستبداد، عبر القصص والنصوص المسرحية، وعبر رموز كنت أنحتها بإزميل الغضب؛ للنيل من هؤلاء القتلة، وعلى الرغم من أن بعض أدباء إدلب كانوا لا يتفقون معي بمفهوم القصة الرمزية، إلا أن بعضهم ممن كنت أثق بهم جداً، كانوا يعطونني دافعاً كبيراً أن أكمل رؤيتك، ومقولاتك التي تؤمن بها.
في أول جمعة من نيسان عام 2011 اتصل بي أحد الأصدقاء، وقال لي: (المظاهرة انطلقت). ذهبت إلى المكان، ومع أول هتاف لدرعا، أحسست أن هناك شيئاً كبيراً قد تحطم وانتهى.. أولها حقدي على مدينتي التي لم تقف إلى جانبي في بناء حلمي، والتي لم تنصفني على مدى 36 عاماً كنت أشعر أنها تخنقني، فمع كل صباح أستيقظ فيه كنت أفكّر وأخطّط للهجرة، والخروج الأبديّ منها، لكنّ ذلك اليوم شهد انقلاباً في تفكيري، بتّ أحبّها، وأنتمي لها. لم أكن أعرف أنني سوف أخرج منها قسراً، وهرباً من قبضة أجهزة احترفت القتل. قتلوا الحلم الأول، عبر تهديد مباشر، وقتلوا الحلم الثاني عبر اعتقال وتهديد صريح.. بعد فراق مستمرّ دام أحد عشر عاماً مازلت أنتمي، وأعشق ذاك المكان الذي كنت أكرهه يوماً ما، ولكنني أعشقه بجدرانه الملوّنة بالأعلام الخضر، وهتافات أهله في الساحات: (يا أهالي الشام.. يا أهالي الشام.. نحنا في إدلب.. أسقطنا النظام).