فنون وآداب

بسام الملا في ذكراه الثالثة: المعارض الصامت الذي دافع بشجاعة عن قيم دمشق المحافظة

دافع عن دمشق المحافظة بشجاعة يوم كانت في إعلام النظام كالأيتام على موائد اللئام

محمد منصور – العربي القديم

مرت ثلاثة أعوام على رحيل بسام الملا. المخرج والصديق الذي أجد ر غبة دائمة في الكتابة عنه، رغم أنني ألفت كتابا عنه قبل أكثر من 16 عاماً.

عرفت المخرج بسام الملا خلال عملي السابق في التلفزيون السوري، ثم توطدت معرفتنا خلال عملي الطويل في الصحافة. حيث سحرني مسلسل (أيام شامية) فكتبت دراسة مطولة عنه في صحيفة (الثورة) ثم انتقدت مسلسله التالي (العبابيد) متحفظاً على معالجته التاريخية رغم معرفتي المباشرة بما بذله بسام من جهد كبير في إخراجه.  وأذكر أنه اتصل بي ذات من عام 2005 مساء ليهنئني على البرنامج الخاص الذي أنجزته عن رحيل المطربة ربا الجمال الذي بثه التلفزيون السوري وحمل عنوان (ربا الجمال أغنية لم تكتمل) صائحاً بمودة: “الله يا حمادة” دون أن يخفي إعجابه بحالة الاحتجاج العميق التي قدمها البرنامج على كيفية قتل المواهب العظيمة في سوريا، وهي الرسالة التي لم يكتشفها الرقيب الغبي لكنها أزعجت الإدارة بعد عرضه.

خلال سنوات طويلة كان بسام الملا يعرف موقفي من النظام، ولاحقاً جمعتنا عدة فرص عمل بما فيها رحلات سفر خارج سورية… لكنني كنت أتحدث عن النظام بكامل الاطمئنان أمامه وبلا أي تحفظ. كنت أشعر أنني أتحدث أمام رجل ينتمي في جوهره إلى صف المعارضة الشعبية الصامتة، رغم ما كان يتهم به بسام الملا أنه صنيعة النظام وربيب حالة الرضا الأمني عنه. لكن الحقيقة التي يجب أن تقال أن بسام صنعته موهبته وإخلاصه الشديد لعلمه منذ كان مخرج برامج في التلفزيون السوري في سبعينيات القرن العشرين. وكان وجوده قادراً على إنجاح أي برنامج أو تغطية في ظل وجود كثير من المخرجين عديمي الموهبة، ممن وظفوا  بالواسطة الطائفية في التلفزيون السوري. كانت الإدارات المتعاقبة هي التي تكلفه بالاحتفالات والمهمات الكبرى (نقل حفلة فيروز في مسرح بصرى، دورة ألعاب المتوسط، بعض حفلات معرض دمشق الدولي الكبرى) لأنها كانت تطمئن إلى أن النتيجة ستكون أهم بما لا يقاس من كل ما يمكن أن يصل إليه أبناء جيله من مخرجي البرامج المتواضعو الموهبة، الذين بقوا في أماكنهم بينما تقدم هو بموهبته الكبيرة وإخلاص الأكبر لمهنته ليصبح رقماً صعبا ليس في إخراج البرامج وإنما في إخراج المسلسلات أيضاً.

لا أذيع سراً عندما أقول إن الرشاوى الجنسية  لم يكن لها مكان في عمل بسام الملا المخرج. ولهذا احتفظ بشخصيته القيادية في العمل بأدق تفاصيله، وعرف على الدوام كيف يدافع عن قراره كمخرج في وجه تعريص الممثلين والممثلات ومحاولات التفافهم من وراء ظهره كي بفرضوا كلمتهم ومصالحهم بواسطة جهات الإنتاج.  أكثر من ذلك لم يكن بسام الملا يتردد في أن يعتذر من أبيه شخصياً إذا شعر أن الدور غير ملائم له. ولهذا قبل حاتم علي اعتذار بسام، حين سحب منه دور محمود الفوال في (أيام شامية) لأنه لم يره فيه، وحين سحب دور أبو عبدو من هاني الروماني وأعطاه  إلى خالد تاجا في المسلسل نفسه. كان كبار الفنانين يشتغلون مع بسام باطمئنان بالغ لأنهم يدركون أنه لن يتوانى في خدمة شخصياتهم جميعاً، ولن يضعهم إلا في مكانهم المناسب.

بسام الملا عاشق البيئة الدمشقية: الكتاب الوحيد عن تجربة بسام الملا الدرامية الناجحة

حين تسلمت إدارة قسم النصوص في شركة ميسلون التي أسسها بسام الملا عام 2008 بعيد نجاح الجزء الثاني من مسلسله الأشهر (باب الحارة) كنت أسمع من بسام يومياً مع فنجان القهوة الصباحي، حديثاً انتقادياً مريراً عن مساوئ هذا النظام وعن تشويهه المتعمد لروح دمشق وجمالها وألقها. كان بسام في أحاديثه وذكرياته التي كان يسردها لي على مدى أشهر ساخطا على حافظ الأسد قبل أن يكون كذلك على ابنه بشار، كان في داخله معارضاً غاضباً، وعاشقاً دمشقياً بامتياز، ممتلئاً بذاكرة تختزن أدق التفاصيل مع أعمق المعاني. فقد كان يدرك مثل أي دمشقي أصيل أن كل تفصيل في البيئة الدمشقية له معنى ومن ورائه فكرة. كان صادقاً في عشقه وانتمائه. ولهذا عندما اكتشف ذاته في البيئة الشامية من خلال مسلسله الأول (أيام شامية) الذي أنجزه عام 1992 استطاع أن يعيد صياغة تراث دمشق تلفزيونياً. وبخلاف جميع من اشتغلوا مسلسلات بيئة شامية بلا استثناء (بمن فيهم أستاذه علاء الدين كوكش) كان بسام الملا مؤمنا حتى النخاع بروح دمشق الشعبية. بقلبها المسكون بالإيمان والطمأنينة. ولهذا نجد أن شخصية رجل الدين قدمت في مسلسلاته كجزء من نسيج اجتماعي يؤمن بقيم الخير والحق والحياة… قدمت بلا أدلجة ولا غمز ولمز بعثي. وبلا توظيف سوى وظيفتها الحقيقية التي وجدت لها في بيئة دمشق ما قبل حكم البعث والأسدين.

كان بسام الملا ابن حي الأكراد الدمشقي مثالا حياً على ثقافة دمشق التي صهرت كل القوميات والأعراق وجعلت منهم نسيجاً واحداً.  يقع حي الأكراد على سفح جبل قاسيون خارج سور دمشق التاريخي، لكن بسام الملا استطاع أن يخترق هذا السور الوهمي ليقدم لنا دمشق الواحدة، المتصلة بأحيائها الشمالية، ولعل شخصية بائع المخلل الإدعشري مستقاة من تلك الأحياء التي لم ينفصل عنها الدمشقيون يومياً، بدليل أنهم سكنوها وانتقلوا إليها حين توسع العمران واكتظت المدينة. ولم يكن حي الأكراد “كانتوناً” بل كان جزءاً أصيلا من المدينة لا يسكنه الأكراد وحدهم… ولهذا جاء عشق بسام لدمشق ودراماه البيئية عنها، قصيدة موشاة بهذا الحب، وهذا الإيمان الذي لم يشاركه به الكثير من أقرانه المخرجين، الذين كانوا يقدمون أعمالا فيها رفض لروح دمشق المحافظة، ومحاولة للسخرية منها وشتمها، وأحيانا تشويهها إما عن قصد أو غير قصد، بينما بسام كان مؤمنا بها، مدافعاً عنها بانتماء وإدراك… منطلقاً  في دفاعه عنها من اضطهاد النظام لدمشق وتشويهها والتفريط الهمجي بتراثها والاعتداء المُمنهج على قيمها المحافظة….

ولعل هذه النقمة على النظام هي التي جعلت أعمال بسام الملا، تختزن روحاً شعبية رافضة للسلطة… ففي العديد من مسلسلاته ومنها (باب الحارة) بالطبع، المجتمع الأهلي هو الذي يدير شؤونه، ويعالج مشكلاته بمعزل عن السلطة التي لا يؤمن بشرعيتها (سلطة احتلال)… وهذا ما جعل المجتمع مترابطاً يساند بعضه بعضاً، ويقف في وجه السلطة عبر تنسيق جماعي سري وعلني… وقد أعجبتني فكرة قالها لي الدكتور سمير التقي في إحدى زياراتي له عندما كان مديرا لمركز الشرق للدراسات في دبي، قال لي: “أنا أرى أن مسلسل باب الحارة كان أحد الأعمال التي حرضت الناس على الثورة ضد هذا النظام. صارت الناس تحكي مع بعضها بعضاً، صارت تفكر بمفهوم التعاون” فكرت بكلام د. التقي طويلاً في الوقت الذي كان (باب الحارة) مثار سخرية وتندر فئات نخبوية، لم تتعامل معه على أنه دراما شعبية، وإنما راحت تعامله كمسلسل عن التأريخ لدمشق، ومنهم الفنان ياسر العظمة الذي اتهم المسلسل بتشويه تاريخ دمشق، وارتكب خطأ نقدياً فادحاً لأنه لم يحاكم العمل وفق النوع الذي ينتمي إليه، بل وفق ما يريده هو من نوع آخر لا ينتمي إليه باب الحارة.

عاصر بسام الملا عشر سنوات من عمر الثورة، لكنه لم يخرج يوماً على وسيلة إعلام ليمتدح النظام أو يدافع عن القتلة أو يتمسح ببشار. اتخذ مرضه ذريعة للاعتذار عن الظهور في تلك المقابلات التي كان يدعى إليها، وسفره خارج البلاد ذريعة أخرى. لم يؤيد الثورة علناً، لكنه أدرك بحسه المعارض الكاره للنظام أولا وبذكائه الاجتماعي ثانياً أن من الخطأ أن يسجل عليه التاريخ أي موقف معاد لها… صحيح أنه فرض عليها أحيانا أن يخضع للمحاذير الرقابية التي فرضتها كاستبدال علم الاستقلال بالعلم الفرنسي، أو تقديم شخصية رجل دين مزيف  للتشويش على المرجعية الدينية في مجتمع الحارة… لكنه بقي وفياً أبدا لروح دمشق الشعبية التي قدمها كما عايشها وعاصرها، لا كما تخيلها كاتب غريب عن البيئة يريد أن يقدمها من منطقه هو، وانطلاقا من مشاعره الدونية هو.

بسام الملا مع شقيقه المخرج مؤمن أثناء تصوير أحد أجزاء باب الحارة

حوّل بسام الملا نموذجه عن الحارة الدمشقية إلى ماركة مسجلة يتداولها السوريون في لحظات الحنين الجارف، أو التمسك الأصيل بالهوية والتراث. صارت مفرداته وثيماته وطريقة معالجاته الميلودرامية للمواقف البطولية، والصدامات الاجتماعية، وللفزعة والنخوة أمام حالات انتهاك الشرف في عرف المجتمع الحافظ، شيفرات اجتماعية وأمثلة توضيحية يستخدمها السوريون في التعليق على المواقف والأحداث. استطاع بكل إخلاص وجدية أن يصوغ مفردات الثقافة الشعبية وأن يدخلها في وجدان السوريين وكان بالغ التأثير في صناعة هذا المشهد. دافع عن دمشق بشجاعة يوم كانت في إعلام النظام كالأيتام على موائد اللئام.

لأول مرة أكتب عن بسام الملا بعد التحرير… أتخيل لو كان حياً وبكامل صحته ماذا بإمكانه أن يقدم لدمشق في زمن الحرية… بالتأكيد كان بإمكانه صناعة نموذج آخر غير (باب الحارة) هذا المشروع الذي سرق من بسام مرتين: مرة حين حولته إعلانات أم بي سي إلى مساحة رمضانية جاذبة للرعاية الإعلانية وبالتالي صار حاجة تجارية سنوية لها… وأخرى حين وقف قضاء نظام الأسد الفاسد مع المنتج الأمي الجاهل محمد قبنض، وأباح له سرقة العمل من بسام الملا أو دفنه وإنشاء مسلسل شبيه على أنقاضه، يحمل اسمه زوراً.

حزنت في سري حين قابلت بسام الملا في دبي قبل وفاته بثلاث سنوات، وكان مؤمنا بأنه يستطيع أن يمنع قنبض من الاعتداء على مشروعه بالقضاء. فقد كانت لديه بقايا ثقة… وبقايا أمل في أن يعود إلى وطن ودعه هو وباب الحارة إلى غير رجعة. لكن بالتأكيد سيبقى ذكرى باقية لا تزول في وجداننا

رحم الله بسام الملا مبدعاً سورياً كردياً دمشقيا أصيلاً وابن بلد… لا أستطيع أن أنساه يوماً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى