حول كتاب: (رياض الترك مانديلا سورية)
بقلم: بدر الدين عرودكي
كان يسمّيها “مملكة الصمت”، وكان حاكمها سعيدًا بهذه التسمية. لذلك حين بدأ البعض بكسر هذا الصمت، سرعان ما أعطى الأمر بطرد كل من رفع صوته من هذه المملكة. وكان من بينهم، ربما لأنه بدا أخطرهم، محام شاب سبق له أن عرف السجن من قبل مرتيْن، وسيعرفه هذه المرّة الثالثة معزولًا في زنزانة طوال 6470 يومًا، حتى إذا خرج من بعدها سارع في أول مناسبة عامة تتاح له كي يندد بالخوف والنفاق والركوع والكذب، فيُعاد اعتقاله على يد “الملك” الوريث ثانية، لكنه لن يبقى قيد الاعتقال أكثر من نصف المدة التي حكم بها بفضل ضغط المنظمات الشعبية العربية والدولية من أجل الإفراج عنه.
في مملكة الصمت هذه، جرى تغييب رياض الترك طوال ثمانية عشر عامًا لم يكن اسمه يذكر خلالها إلا همسًا بين أصدقائه ومحبيه دون أن تتسلل إلى أحد منهم أدنى فكرة عن حياته في زنزانته الانفرادية. ولم يبدأ اسمه في التداول علنًا كاسرًا جدار الخوف إلا اعتبارًا من عام 1998 على إثر خروجه من السجن، حين بدأ تهافت الصحافيين والإعلاميين عليه من مختلف بلدان العالم العربي لإجراء مقابلات نشرت في الصحف الورقية أو على المواقع الإلكترونية التي أخذت في التكاثر خلال العقدين الأخيريْن أو في برامج تلفزيونية تستضيفه.
على أنَّ كاتبًا سوريًا مقيمًا في الولايات المتحدة الأمريكية (ولاية إنديانا)، لطفي حداد، كان كما كتب في تقديم كتابه، وهو يحاول إعداد بحث واسع حول “حقوق الإنسان وسجناء الرأي في الوطن العربي” جامعَا من أجله “آلافًا من الصفحات والتقارير والمقالات والمحاضرات والحوارات في كل البلاد العربية”، قد استقر رأيه على “دراسة سجين رأي واحد يمثل صورة نزيهة لحرية الموقف السياسي وثمنه في هذا الوطن”، وكان هذا السجين هو رياض الترك الذي انتهى إلى “إعداد و تحقيق” كتاب حوله نشره في عام 2005 لدى “مؤسسة جذور الثقافية (الولايات المتحدة الأمريكية)”، تحت عنوان: رياض الترك: مانديلا سورية.
سوى أننا سنكتشف أن الكتاب لا يتضمن في الواقع “دراسة سجين رأي..” كما يحملنا المؤلف في تقديمه على الظن بقدر ما يجمع عددًا من المواد المتباينة التي يمكن الاستفادة منها لوضع دراسة متكاملة، مواد تتألف من مجموعة من النصوص بعضها عبارة عن مقابلات أجريت مع رياض الترك أو بعض كتاباته وأحاديثه الصحفية ومحاضراته، وبعضها الآخر يتناول حقوق الإنسان والمواثيق الدولية الخاصة بها أو الحياة السياسية في سورية وكذلك وثائق خاصة ببعض الأحزاب السورية وخصوصًا الحزب الشيوعي الذي انشق عنه ما عرف باسم “الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي” والذي حمل اعتبارًا من المؤتمر السادس اسم “حزب الشعب الديمقراطي”. وسيتيح لنا العرض التالي كيف تُرِكَت “الدراسة” لاستنباط القارئ من مواد الكتاب.
يقع الكتاب في ثمانية فصول/ أجزاء. الأول، مقدمة، تضمنت مقاطع عدة: مقتطفٌ (اقتصر على 21 مادة من أصل 30) من نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948؛ واستعراض أسماء مختلف المواثيق الدولية والإقليمية حول مختلف حقوق الإنسان التي صدرت بين عامي 1966 و1981 بالإضافة إلى اتفاقية مناهضة التعذيب الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1984؛ مع سردية تلت ذلك (دون ذكر لمصدرها) حول شاب نيجيري توفي أثناء إبعاده القسري، وعرض لضروب التعذيب التي شملتها الاتفاقية المشار إليها؛ وينتهي الفصل بسرد لحملات اعتقال عدد من رجال المعارضة في سورية (خلال شهري آب وأيلول 2001) التي تلت هامش حرية التعبير وفرض القيود مجدَّدًا على منتديات النقاش وهيئات المجتمع المدني، وطالت ثلة من النواب والمحامين والمهندسين (نساء ورجالًا) الذين تجاهلوا هذه القيود.
الثاني، حمل عنوان “الحياة السياسية في سورية خلال قرن”، وتضمن تسجيلًا للحظات التاريخية التي عرفتها الحياة البرلمانية فيها منذ بدايتها في عهد الانتداب في نهاية عشرينيات القرن الماضي مرورًا بفترة الاستقلال وفترة الانقلابات العسكرية، وفترة قيام الوحدة ثم الانفصال، وأخيرًا حكم البعث حتى عام 2002، مع خاتمة تحت عنوان “سورية في القرن العشرين” لرياض الترك دون إشارة لمصدر هذا النص.
الثالث، “رياض الترك خلف القضبان”، يتضمن موجزًا مقتبسًا لسيرته حتى دخوله السجن للمرة الثالثة التي دامت ما يقارب ثمانية عشر شهرًا، ومقتطفات من مقابلات أجراها رياض الترك وتحدث فيها عن حياته سجينًا، و”مختصر تقرير عن قضية الأستاذ المحامي رياض الترك الذي أعدّه مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية في آب 2002″ على إثر الحكم عليه من قبل محكمة أمن الدولة العليا في سورية بالسجن سنتين ونصف، والذي يسرد الحجج القانونية لتفنيد كافة الاتهامات التي وجهت لرياض الترك والتي اعتقل بسببها وقدم للمحاكمة. وقد تضمن هذا الجزء أيضًا ورقة ضبط بإفادة رياض الترك لدى اعتقاله وردوده على الأسئلة التي وجهت إليه والتي أدت إلى إحالته إلى محكمة أمن الدولة لاتهامه بمحاولة تغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة، وإلقاء الخطب والكتابات بقصد إثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة، وقيامه بنقل أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة وإذاعة أنباء كاذبة من شأنها أن تنال من هيبة الدولة. واختتم الفصل بسرد منقول عن الصحافة لبعض التفاصيل عن الجلسات الأربع التي عقدتها محكمة أمن الدولة بين نيسان وأيار 2002 ” ثم صدور الحكم في العاشر من حزيران 2002 ا القاضي بالاعتقال المؤقت لمدة سنتين ونصف وتجريده مدنيًا.
الرابع، “خارج القضبان”، وزع هذا الفصل على قسمين يتضمن الأول، حسب العنوان، محاضرتين دون الإشارة إلى تاريخ ومكان إلقائهما: “من غير الممكن أن تظل سورية مملكة الصمت” و “مسار الديمقراطية وآفاقها في سورية”. أما القسم الثاني، فقد تضمن “مقاطع من حوارات ولقاءات” نشرت كلها بعد خروجه من السجن، اثنان منها كان قد أجراهما معه محمد علي الأتاسي، الأول منها بلا تاريخ، أما الثاني فقد حمل تاريخ 16 آذار 2003،. في حين أن الحوار الثالث أجراه عيسى بريك في أوائل كانون أول 2002. أما الحوار الرابع، فقد أجراه حكم البابا بتاريخ 29 أيلول 2003 ونشرته جريد النهار. وتلته مقاطع من حديث أدلى به رياض الترك إلى جريدة الرأي الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي (حزب الشعب الديمقراطي حاليًا)، ثم مقاطع من حوار هاتفي مع إذاعة مونت كارلو في شهر آب 2001، ومقاطع من حوار مع جريدة الوطن بدمشق، وترجمة لحديث مع صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي (الأُومانيتيه) نشر في صحيفة الرأي في 26 كانون أول 2003 ، ومقاطع من حوار في موقع الجزيرة أجراه عدنان الشريف، وحوار من صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 11 آذار 2005، ثم مقاطع من حوار مع جريدة المستقبل بتاريخ 4 حزيران 2005 الذي يختتم هذه المقتطفات.
الخامس، “خارج الحدود داخل القلوب”، وقد تضمن في جزء منه ردود فعل الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان السورية والعربية والدولية على اعتقال رياض الترك ثانية، وكذلك مواقف المثقفين العرب فضلًا على ردود الفعل الرسمية سواء على الصعيد الدبلوماسي كما فعلت وزارة الخارجية الفرنسية أو البيان الذي وقع عليه كبار المثقفين الفرنسيين (من أكاديميين وباحثين وجامعيين مثل بيير بورديو وبنيامين ستورا وجان لاكوتور) الذين طالبوا فيه بإطلاق سراحه، وعلى الصعيد الدولي كمنظمة العفو الدولية _(آمنستي أنترناسيونال) وسواها.. وهي ردود فعل كانت تبرهن على الصدى الجماهيري والمؤسساتي لمواقف رياض الترك الشجاعة والصارمة في الثبات على مواقفه رغم السجن والتعذيب ومحاولات التغييب. وقد جمع هذا الجزء أيضًا مجموعة من المقالات التي كتبها كتاب سوريون ولبنانيون بوجه خاص حول رياض الترك مناضلًا وسياسيًا نادرًا: محمد علي الأتاسي، وسلامة كيلة، والياس خوري، وعناية جابر، ونهلة الشهال، ومحمد أبي سمرا.. مقالات كلها تعبر عن رفضها لاعتقاله وترسم جوانب من شخصيته لا يمكن لأحد ما إن يعرفها حتى يتوقف أمامها مدركًا ندرتها، ومعجبًا بصاحبها إعجابًا يحمله تكريسه بطلًا ونموذجًا في النضال والثبات والتصميم.
السادس، “حركات التحرر العالمية”، يقدم هذا الجزء فكرة عن ثلاث شخصيات تاريخية نجحت في نضالها لتحرير بلادها: نلسون مانديلا، ديزموند توتو، والمهاتما غاندي.
السابع، “مواقف شائكة: الأكراد، الإخوان المسلمون، الوجود السوري في لبنان”. يستعرض هذا الجزء مواقف رياض الترك التي أثار كل منها جدلًا واسعًا كان عليه أكثر من مرة أن يشرح أو يعيد شرح الموقف مثلًا من الإخوان المسلمين الذي أكد أكثر من مرة أنه لاوجود لأية علاقة له مع الجماعة في إطار التحالفات، لكنه يتطلع إلى أن يكون الإخوان المسلمون في عداد القوى السياسية عند التئامها ضمن الطيف السياسي العريض نظرًا لانطلاقه من مبدأ حق الوجود لجميع الأحزاب، وهو الحق الذي أنكره حافظ الأسد؛ أو أن يعيد صياغة موقفه من القضية الكردية التي تجاهلها في ندوة له في السويد حول التواجد الأمريكي في المنطقة ثم الوضع السياسي الداخلي في سورية. لكنه عاد ووضح رؤيته في مقابلة أجراها معه محمد علي الأتاسي نشرت في موقع الرأي بتاريخ 31 آذار 2004 نقلًا عن ملحق النهار الثقافي والتي اعتبر فيها أن الكثير من حقوق الأكراد القومية لا تزال مهضومة وأن “علينا أن نلبي مطالبهم المشروعة كمواطنين سوريين وفي مقدمتها إعادة الجنسية للمحرومين منها وحقهم في تعلم لغتهم وممارسة أنشطتهم الثقافة والاجتماعية بعيدًا عن قمع السلطة وترهيبها”، لكنه إلى جانب ذلك يرفض أي ادعاء بأن الجزيرة جزء من كردستان وأن سورية تحتلها لأنه “كلام هراء ومناف للحقيقة وللتاريخ”؛ أو يؤكد موقفه من الوجود السوري في لبنان الذي استفاض في شرحه في المقابلة ذاتها انطلاقًا من رفض من الموقف المبدئي للتدخل في لبنان واعتباره خاطئًا لاسيما بعد اتفاق الطائف وعودة السلم الأهلي.
الثامن، “ملاحق”. 1) التجمع الوطني الديمقراطي (حزب الاتحاد الاشتراكي، الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي، حزب البعث الديمقراطي، حزب العمال الثوري، حزب الاشتراكيين العرب)؛ 2) الحزب الشيوعي السوري ثم عامة 1972؛ (الحزب الشيوعي السوري، الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي)؛ حزب الشعب الديمقراطي السوري (البرنامج السياسي والنظام الداخلي ـ المؤتمر السادس).
** ** **
صدر هذا الكتاب في عام 2005، أي قبل ثمانية عشر عامًا تقريبًا كان خلالها رياض الترك في أوج نشاطه السياسي بعد التغييب الطويل الذي عرفه. وكان صدور كتاب عنه مبادرة يحمد عليها صاحبها لو أنها استوفت شروط كتاب يليق بالرجل وسيرته. إذ، كما يمكن للقارئ أن يلاحظ عبر هذا العرض المفصّل لمحتويات الفصول الثمانية، لم يقدم هذا الكتاب دراسة حول رياض الترك تتناول نشاطه سياسيًا ومناضلًا عنيدًا في إطاره التاريخي والاجتماعي، ولا توثيقًا منهجيًّا لمساره السياسي عبر المحاضرات التي ألقاها، والنصوص التي حرّرها، والأحاديث التي أدلى بها بحيث يؤلف هذا التوثيق المنهجي دليلًا للقارئ يتعرف عبره على مسار رياض الترك وعلى تطور تفكيره وتأثير تغييبه ثم حضوره على المشهد السياسي السوري.. إذ يكفي أن نقرأ عناوين الفصول أو فوضى التسلسل التاريخي فيما اختار نشره من مقالات أو مقابلات كي نلاحظ سذاجة المسار الذي اختاره المؤلف في كتابه.
ربما يمكن للحزب الذي كان عميده وكذلك للذين حاوروا رياض الترك وعرفوه عن كثب أن يعملوا على وضع كتاب يجمع بين دراسة مسيرة هذا المناضل الصلب وبين توثيق كتاباته وأحاديثه بما يليق بالمثل الذي قدمه لأجيال من السوريين.
________________________
من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024