كتاب (البعث) لسامي الجندي: اعترافات من قلب الكارثة لم يتجاوزها الزمن
عن كتاب «البعث» في طبعته السورية الجديدة الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب ضمن سلسلة كتاب مجلة (الموقف الأدبي)

ياسر الظاهر – العربي القديم
في لحظة رمزية لافتة، أعادت مجلة الموقف الأدبي السورية نشر كتاب «البعث» للدكتور سامي الجندي، أحد أبرز مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي. ورغم أن الطبعة الأولى صدرت في بيروت عام 1969، فإن صدوره مجددًا، في سوريا، ومن قبل مؤسسة ثقافية كانت حتى وقت قريب من روافد الخطاب البعثي الرسمي والنظام الأسدي المستبد، لا يُعد حدثًا عابرًا. إنه لحظة دالة على بداية تحوّل في الوعي الرسمي، وانكسار لجدار المحظورات التي طالما أحاطت بتاريخ الحزب والنظام الأسدي البائدين.
يُقرأ كتاب «البعث» اليوم بوصفه أكثر من مذكّرات أو اعترافات. إنه شهادة فكرية–سياسية كتبها الجندي من موقع الشاهد والمشارك والمنشق، ليقدم مراجعة نقدية نادرة لتجربة حزب آمن به ثم انقلب عليه، لا كخصم، بل كمن اكتشف خيانة الحلم.
البنية الخطابية: بين الشهادة والمرافعة
الجندي لم يكتب بصفته مؤرّخًا محايدًا، بل كشاهد يحمل في آنٍ واحد مشاعر الذنب والانفصال، كما لو كان يدافع عن شبابه وفي الوقت نفسه يعتذر عنه. يبدأ نصّه بلغة عاطفية، أقرب إلى بوح عاشق خذلته محبوبته، حين يقول: “من كان يحسب سنة 1940-1941 المدرسية أن البعث ينتهي إلى كل هذا العبث؟”
الجندي الذي شغل مناصب دبلوماسية وإعلامية في الدولة البعثية الناشئة، يكتب تجربته من داخل الحزب، ومن موقع المثقف الذي حلم بالحرية، ثم استيقظ على قبضة الأمن والعسكر والطائفة. وهذا ما يجعل الخطاب في كتابه يتراوح بين الاعتراف والاتهام، وبين التأريخ والتأمّل.
سرد الحلم ثم الكارثة
يقسّم الجندي تجربة البعث إلى ثلاث مراحل:
التأسيس الحالم (1940–1952): مرحلة المثالية والنزعة القومية النبيلة.
الصعود العسكري (1952–1963): مرحلة الاختراق والانحراف.
التشظي السلطوي (1963–1969): لحظة الانقلاب الكامل نحو الدولة الأمنية.
اللغة التي يستخدمها حادة ومباشرة، لكنها لا تخلو من تأمل ساخر، وكثافة في الجمل الأخلاقية. يحضر ضمير “الأنا” بقوة، مما يمنح الكتاب طابعه الاعترافي المميز.
تفكيك أيديولوجيا البعث
لم يتعامل الجندي مع شعارات الحزب (وحدة، حرية، اشتراكية) باعتبارها مقدسات، بل فككها بوصفها أدوات خطابية فقدت مضمونها. ويرى أن البعث، كحزب، فشل في بناء ثقافة ديمقراطية، مكتفيًا بمنظومة تلقينية عاطفية تسوّق للطاعة وتقديس الزعامة.
لم يصرّح الجندي صراحة بالنقد الطائفي، لكنه ألمح بذكاء إلى اختلال التوازن داخل المؤسسة العسكرية بعد 1963، وإلى هيمنة ضباط بعينهم على القرار الحزبي والأمني، في ما يشبه النقد المبكر لصعود البنية الطائفية للنظام السوري لاحقًا.
الاعتراف السياسي: من التبرير إلى التفكيك
«البعث» ليس فقط تحليلًا سياسيًا، بل هو أيضًا أدب اعتراف سياسي. يقرّ الجندي بخطأ المشروع من الداخل، ويكشف عن خيانة الجيل المؤسس للمبادئ التي نادى بها. يقول في لحظة انكسار نادرة:
“هذه الذكريات لا تتيح لي أبدًا أن أبصق بوجه شبابي، أحببتُ كلّ ثانية منه، حزين لحرمانه…” بهذا المعنى، يتجاوز الجندي التبرير إلى ما يمكن تسميته بـ”الانفصال الأخلاقي” عن المشروع البعثي، دون أن يتنصل من مسؤوليته.
أهمية التوقيت والدلالة
صدر الكتاب عام 1969، أي بعد ست سنوات فقط من استلام البعث للسلطة 1963، وقبل انقلاب حافظ الأسد بعام واحد. وهو ما يجعل الكتاب بمثابة إنذار مبكر حول طبيعة التحول الذي سيطرأ على الحزب والدولة معًا.
ويُعدّ كتاب الجندي من أوائل النصوص التي وضعت البنية الأيديولوجية للبعث تحت المجهر، سابقًا على كتابات لاحقة لكل من ميشيل كيلو، مطاع الصفدي، وعزيز العظمة. لقد كشف محدودية الفكر القومي حين ينفصل عن الديمقراطية، وحوّل مقولة “البعث وجدان الأمة” إلى مرآة لانهيارها.
مرآة لقراءة سوريا اليوم
لا تتوقف أهمية الكتاب عند كونه وثيقة تاريخية، بل تتجلى اليوم في قدرته على تفسير بنية الاستبداد الذي انفجر على شكل كارثة شاملة في سوريا بعد عام 2011. لقد قدم الجندي، دون أن يدري، أدوات مبكرة لتحليل البنية السلطوية التي تشكّلت في ظل حزبٍ انقلب على نفسه، وتحول من مشروع تحرر إلى أداة قمع.
ما بعد الاعتراف
«البعث» هو كتاب عن الخيبة، لكنه أيضًا عن الشجاعة. فأن يكتب أحد مؤسسي الحزب نقدًا جذريًا لتجربته، من داخلها، في لحظة ما زالت السلطة البعثية في أوجها، فذلك يعني أن الكتاب لا يُقرأ كتوثيق للماضي فقط، بل كفعل تحرّر من الوهم.
إنها لحظة فكرية كاشفة في تاريخ الخطاب القومي العربي، ونصّ نادر في أدب “النقد الذاتي للثورات”، يذكّرنا دائمًا بأن أخطر ما يُصيب الأوطان هو تحوّل الحلم إلى كابوس، دون أن يعترف أحد بذلك. وسامي الجندي… اعترف.