علم النفس والسلوك

من منشور إلى ساحة قتال: كيف ينتشر فيروس الانفعال الرقمي في المجتمع السوري

قراءة نفسية واجتماعية في آليات العدوى العاطفية، ودور الخوارزميات والصدمة الجمعية في تحويل المزاج العام إلى انفعال متكرر

براء الجمعة * العربي القديم

لا تقتصر مقولة جاور السعيد تسعد لمجرد قول شعبي متناقل، إنها قريبة من خلاصة لعلم اجتماع فطري يلامس أحدث نظريات النفس البشرية المعاصرة. إن ما صاغه العالمان Nicholas Christakis وJames Fowler عام 2007، تحت مسمّى العدوى الاجتماعية” (Social Contagion Theory)، لم يكن سوى تأطير علمي لظاهرة بشرية أزلية: المشاعر والأفكار والسلوكيات لديها قدرةٌ مذهلة على الانتشار بين الأفراد كعدوى صامتة، لكنها نافذة المفعول. فالإنسان ليس كيانًا معزولًا، بل هو كائن يتنفس ضمن بيئة شعورية كثيفة، لا تقل أهمية عن بيئته المادية. في هذه البيئة، تتشكل المزاجات الجماعية لتصبح قوة قاهرة، أقوى من منطق الأفراد وأكثر عدوى من أي فكرة مجردة.

لكن في الحالة السورية، التي تعصف بها مناخات عديدة، لم تعد هذه العدوى مجرد ظاهرة اجتماعية ناظمة، بل تحولت إلى فيروس مجتمعي رقمي شديد الفتك. هذا الفيروس وجد في ساحات التواصل الاجتماعي حقلاً خصباً لانتشاره وتعميق آثاره، محولاً الانقسامات القديمة إلى شحنات تحريضية فورية. إن ما نشهده اليوم من سيادة للمشاعر العدائية، لا سيما في الفضاء الافتراضي، هو تجسيد بالغ التحريض والخطورة لآلية العدوى الاجتماعية في سياق يفتقر إلى المناعة النفسية.

في صباحٍ عاديّ على منصةٍ رقمية، قد يبدأ المشهد بمنشورٍ نقدي بسيط، لكنه يتحوّل خلال ساعات إلى سجالٍ شاملٍ من الشتائم والاتهامات، حيث تنقلب نافذةُ الحوار إلى ساحةٍ للصراع، وتتضاعف التعليقات الحادة والمُخوِّنة بمجرد ظهور الشرارة الأولى. هذا المشهد المتكرر هو مدخلنا لقراءة: كيف تحولت آلية “العدوى الاجتماعية” المعروفة إلى ما نسمّيه هنا “فيروس الغضب الرقمي” في الحالة السورية، وما هي التداعيات النفسية والمجتمعية التي يفرضها هذا “التطبيع مع العدوانية”؟

العدوى الاجتماعية في مختبر الصدمة السورية

تعتمد نظرية العدوى الاجتماعية على فرضية أن العلاقات ليست تبادلاً للكلمات والمعلومات فحسب، بل هي شبكة من الإشارات العصبية والعاطفية. هذه الإشارات تتفاعل مع ما يُعرف بـ”نظام المرآة العصبية” (Mirror Neurons) في الدماغ، الذي يعكس مشاعر الآخرين داخلنا، ما يدفعنا لتبني أساليب تفاعلهم أو تفكيرهم تلقائياً، ودون نية واعية منا. في البيئات السوية، تساهم هذه الآلية في التضامن ونشر مشاعر الأمل والتعاون. أما في بيئة الأزمات، التي عانت القهر والنزوح وفقدان الثقة، فإنها أخذت مساراً سلبياً شديد الخطورة.

لقد خلقت سنوات المعاناة الطويلة صدمة جمعية ، أنتجت بدورها حالة من الغضب المكبوت، والإحباط المعمم، وتآكل الثقة الاجتماعية بشكل غير مسبوق. هذه المشاعر السلبية المتراكمة لم تجد متنفساً آمناً أو مساحات للتعافي، بل وجدت ساحة للتفريغ الفوضوي في الفضاء الرقمي الذي يتسم بغياب الرقيب والمساءلة. الفضاء السوري الرقمي، بكل ما فيه من انقسامات وتخوين وشخصنة للقضايا، تحوّل إلى بؤرة لتكاثر العدوى الشعورية السلبية، حيث تتنفس الشاشات حالةً من التفتت العصبي الجماعي.

الذئب المعلق”: سيكولوجيا العدوانية الرقمية كآلية تفريغ

إنّ المثال البليغ لـ”التعليق العدائي الواحد الذي يتبعه جيش من المعلقين”، يمثل جوهر هذه العدوى الرقمية. ويمكن وصف هذا التفاعل بـ”ظاهرة الذئب المعلق”: شخص واحد يبدأ بإطلاق الشتيمة أو التعليق المُخوّن، ليجد خلفه مجتمعاً افتراضياً ينتقل إليه الشعور بالعدوانية والغضب كنبض كهربائي يسري في أسلاك التواصل الاجتماعي.

ما الذي يفسّر هذا التماهي السريع مع السلبية؟

  1. تآكل الثقة وتمركز الذات كآلية دفاع: سنوات المعاناة الهائلة رسخت شعور الأفراد بالعزلة وفقدان الأمان. في هذا المناخ السائد، يصبح الآخر —خاصة المختلف عنه في الرأي أو الانتماء— مصدر تهديد محتمل لا يُحتمل. التخوين يصبح آلية دفاع نفسي أولية وساذجة، حيث يُسقط الفرد إحباطه وعجزه المزمن على الآخر بوصفه خائناً أو فاسداً، ليُبرئ ذاته من مسؤولية التغيير.
  2. سيكولوجيا الجمهور الافتراضي وتحرير الغرائز: توفر منصات التواصل الاجتماعي ستاراً من عدم الكشف عن الهوية (Anonymous) أو الحسابات الوهمية، مما يحرر الأفراد من قيود الضمير والمسؤولية الاجتماعية التي تفرضها التفاعلات وجهاً لوجه. يصبح التعبير العدائي أكثر سهولة و”متعة” كآلية لتفريغ الضغط المكبوت، وكأنه تنمر جماعي مبرر ومقدس في آن واحد.
  3. العاطفة بوصفها أسرع من الفكرة: تؤكد النظرية أن العاطفة تنتقل أسرع بكثير من المعرفة. في الفضاء الرقمي المشحون، لا يحتاج المتلقي لقراءة المنشور أو تحليل أبعاده المعرفية. يكفي أن يلتقط نبرة الغضب أو التخوين من التعليق الأول ليتفاعل معه عاطفياً، ويساير الموجة السائدة للانفعال الجماعي. هنا، تتحوّل العدوانية إلى إحساس مشترك بالانتماء العاطفي، حتى لو كان انتماءً إلى معسكر سلبي يُدمّر الذات والآخر.
  4. تضخيم الخوارزميات وتغذية الانقسام: لخوارزميات المنصات دور في تفاقم الحالة السورية. فالمحتوى العدائي، المثير للجدل، أو الذي يحرض على الانقسام، غالباً ما يحظى بتفاعل أكبر وبالتالي انتشار أوسع. هذا الانتشار يضخم الأصوات المتطرفة، ويعزز بيئة الكراهية، مما يخلق فقاعة عاطفية سلبية تحجب الرؤية وتمنع وصول الأصوات المعتدلة أو العقلانية، ليصبح الصوت الأعلى هو بالضرورة الصوت الأكثر عنفاً.

النتائج المجتمعية: تشقق النسيج تحت وطأة العدوى

إن العدوى الاجتماعية في الحالة السورية لا تبقى حبيسة شاشات الهواتف، بل تتسرب لتشقق النسيج المجتمعي :

  • تزايد التشققات المجتمعية وفقدان المرجعية: التخوين والإسقاط المستمر للمشاعر السلبية يزيد من انعدام الثقة البينية بين أبناء المجتمع الواحد، ويغذي الانقسامات الطائفية والمناطقية. يتحول المجتمع إلى جزر معزولة، كل جزيرة ترى نفسها الضحية المطلقة والآخر هو الجلاد.
  • عزل واغتيال الأصوات المعتدلة: يتم قمع الأصوات التي تدعو إلى التهدئة، التفكير النقدي، أو العقلانية من خلال “جيوش” التعليقات التي تمارس التنمر الإلكتروني والتهديد. هذا الاغتيال الرمزي يدفع الأفراد إلى الصمت خشية الانجرار إلى هذا “المستنقع الرقمي”، ليصبح الفضاء العام مرتعاً للأكثر تطرفاً لفظياً.
  • إدامة الصدمة النفسية وتعطيل التعافي: التعرض المستمر لـ”البنية التحتية العاطفية للكراهية” عبر الإنترنت، يغذي حالة القلق والتوتر المزمن لدى الأفراد. هذا يفاقم من الوصول لأعراض أكثر حدة، ويُعطّل أي فرصة حقيقية للتعافي النفسي، حيث يبقى الجرح الجمعي مفتوحاً ويُعاد تسعيره يومياً عبر الشاشات.

بناء “المناعة الجمعية”: استراتيجية وطنية للمشاعر

الوعي بخطورة العدوى الاجتماعية هو الخطوة الأولى والأكثر أهمية نحو الخروج من دائرة الانفعال المتواصل. إن الإنسان كائن ناقل للمشاعر، وسواء أردنا أم لا، فإن تأثيرنا لا يتوقف عند حدودنا الفيزيائية. الوعي يعني أن نتحمل مسؤولية ما نحمله داخلنا من مشاعر وتصورات يومياً.

إن التعامل مع هذه “العدوى العدائية” تتطلب جهداً متضافراً على ثلاثة مستويات، تُشكل معاً استراتيجية المناعة الجمعية:

  1. المستوى الفردي (الوعي والفرز النقدي): يجب على الفرد السوري أن يتحول من مجرد “متلقٍ سلبي” إلى ناقد إبصاري للمشاعر. فقبل التعليق أو المشاركة، يجب التوقف وسؤال النفس بوعي: هل هذا التفاعل مبني على منطق المعالجة أم هو مجرد استجابة عاطفية “معدية”؟ يجب كسر حلقة العدوى بالتزام الهدوء، وتجنب الردود الانفعالية التي تمنح الفيروس وقوداً.
  2. المستوى الاجتماعي (تعزيز الحصانة القيادية): يجب على القيادات والمثقفين والإعلام البديل أن يركزوا على تنظيم المزاج الجمعي نحو الإيجابية، التعاون، وإدارة الاختلاف، بدلاً من إدارة الصراع. القائد الاجتماعي المؤثر، دوره يتجاوز إدارة المحتوى إلى بث لغة وسلوك ونبرة يومية تدعو إلى التسامح واحترام التنوع، ليكون نموذجاً لـ “عدوى الأمل”.
  3. المستوى الرقمي (مقاومة الخوارزميات): ينبغي إنشاء محتوى رقمي بديل ذي جودة عالية ومهنية فائقة، يركز على قصص الأمل، إعادة البناء، والمواضيع التي توحد السوريين. النشر بكثافة عن التنوع وقيم الانتماء الإنساني المشترك هو وسيلة فعالة لمقاومة تضخيم المحتوى التحريضي، وإجبار الخوارزميات على عكس هذا التيار الإيجابي.

مسؤولية الإبصار في زمن العدوى

في نهاية المطاف، تكشف لنا العدوى الاجتماعية، بحلتها الرقمية السورية القاسية، أننا لسنا ضحايا صامتين لبيئتنا بقدر ما نحن ناقلون” و”مختارون” لما نُعدي به محيطنا. الحالة السورية لم تخلق هذه الآلية النفسية، بل حولتها من تلاحم فطري إلى مضاعفٍ ضخم للانفعال الجمعي. إنها لحظة مسؤولية الإبصار التاريخية؛ أن ندرك أن كل ضغطة زر، وكل تعليق، ليست مجرد رأي عابر، بل شحنة عاطفية تُغذّي الموجة السائدة، إما باتجاه الهدم أو البناء.

إن القول بأن الإعمار يبدأ من الحجر هو نصف الحقيقة؛ أما الحقيقة الكاملة والفلسفية الواقعية فهي أن الإعمار يبدأ من تعافي المشاعر. يجب علينا أن نُعامل “العدوى الإيجابية” كاستراتيجية وطنية، لا كمُجرد تفاؤل عابر. هذا لا يعني نكران الألم، بل يعني توجيه قوة نظام “المرآة العصبية بوعي نحو عكس قيم الصبر، التعافي، واحترام التنوع، بدلاً من تكريس العدائية والتخوين الأعمى.

يجب أن نتذكر دوماً أن عبارة الصاحب ساحب لا تلزمنا أن نسحب الآخر، بل تلزمنا أن نختار جيداً مَن يسحبنا وإلى أي اتجاه. لذا، فإن مسؤوليتنا القصوى اليوم هي أن نُصبح نحن أنفسنا مناعة المجتمع المُتعافي، وأن نُحوّل قوة العدوى البشرية من فيروس يُفتت النسيج إلى نَسِيمٍ يُنعش الروح، ليكون البناء القادم للوطن بناءً متكاملاً، مُتعافياً انساناً ومكاناً.

____________________________________

*مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

زر الذهاب إلى الأعلى