التاريخ السوري

من موت حافظ إلى خبر باسل: كيف صدحت أغنية نجوى كرم "قلبي غنى؟"

صخر بعث – العربي القديم

في مثل هذا اليوم منذ أربعة وعشرين عاماً كنتُ في إجازة طويلة بعد نحو ستّة أشهر من الغياب عن “إدلب” .

أيقظتني أمّي قُبيل الظهيرة.. قالت: العقيد عالتلفون.. وثبتُ وأمسكت السمّاعة وصرختُ: احترامي!

قال: التحق فوراً.. وأغلق.

كانت أمّي تراقبني قلقةً.. سألتني: شو في؟!

– لا أعرف..!

اتّصلت بالنقيب جمال الذي من “وادي العيون”.. فهّمني شو في؟ اش بدو العقيد؟!.

قال: لا تحكي شي إذا في عندك حدا، تعا فوراً.. لسه ما حدا بيعرف، الرئيس عطاك عمرو.

– أي رئيس يا زلمة؟!

– العمى بربك.. قوم تعا.  وأغلق.

نقلتُ هذه المعلومة الإستراتيجية لأبي بعد دقيقة من التفكير.. فقال: ليش هاد بيموت؟!

قلت: ما بعرف.. هيك قالولي..

كان التلفزيون يبثّ برامجه الاعتيادية، ويبدو أنه لم يكن مقرّراً إعلام “العامّة” بعد..

وضّبت ملابسي وأشيائي وتجهّزت للسفر.

يومها تذكّرت لمّا مات ابنه (في يوم جمعة) من العام 1994، كنّا مهنّد وأنا في المدينة الجامعية “نذاكر” مادّة “القانون الروماني” ولم نخرج من الغرفة.. استيقظنا و مكثنا، وبعد صلاة الجمعة خرجت من خلف الوحدة 14 (المحبّبة) مظاهرة. طلّاب وطالبات كانوا يهتفون بضراوة: (نحنا ولادك يا حافظ).

نظرنا مهنّد وأنا في عيون بعضنا بعضاً وكلّنا دهشة و استغراب..

قال: معترضين على شي فحص بمادّة؟!

قلت: من إيمتى كان عنا هيك حركات مثلاً..؟!

مططتُ رأسي من نافذتي إلى الأعلى وصحت: أبو جعفر.. أبو جعفر.

مطّ رأسه من نافذته إلى الأسفل: وصاح : شو يا حبيب؟

قلت: ولا شي.. أنا بدي اسألك شو في؟!

– آبتعرف شو في؟ وأنا ما قول لحالي شبو هاد معلي صوت المسجلي لعند الله.. قرد ابن الرئيس مات.. آبتعريف؟!.

– أي واحد؟

نظر إليّ شزراً.. وأغلق.

كان “مهنّد” قد اشترى “مسجلة استريو” حمراء اللون وصينية الصنع.. وقوّة صوتها الكثير جدّاً من “الواطات”.. وأصرّ أن يستمع لكاسيت أغاني كاظم الساهر بأشدّ ما تملك مسجّلته الجديدة من قوّة.. وأن يُسمع أكبر عدد من الطلاب في كل المدينة الجامعية صوت مطربه المفضّل وهو يصيح.. نصّي تلج نصّي نار.. بردان أصيح من التلج.. وآاااه أصيح من النار، لك لا النار ذوبتلي الثلج.. ولا الثلج طفالي النار.. ، ثمّ: شلون أودعك يا العزيز وبإيدي أحجز للسفر!.

هذا خروج مقصود عن النص (بهدف التأكيد على القدرة الإنشائية والإنشادية للكاتب)..

المهمّ .. وقتها نبّهتُ “مهنّداً” كي يخفض الصوت، لكنني لم أكن جادّاً.. خاصّة وأنني كنت أحبّ كاظماً وأحبّ أغانيه، لكن ما لفت نظري أن كلّ المسجّلات على شبابيك كل النوافذ في جميع الوحدات السكنية في كل المدينة الجامعية كانت تصدح بآي من الذكر الحكيم، ومع أن هذا كان مألوفاً في نهارات الجُمَع، لكنّ الطريف أن الجميع كانوا يستمعون لنفس الآيات.. ولم يخطر في بالي ولا في بال مهنّد أيضاً أن يكون المقرئ يرتّل القرآن على هواء إذاعة دمشق.. ولم يكن لدينا أية تجربة مع موت أية شخصية رسمية مهمّة و للغاية!.

تركنا الغرفة و الوحدة والمدينة.. وهرعنا إلى بيت “الاسماعيلية” ومكثنا هناك حتى الليلة التالية.

في الليلة التالية أخذنا “تاكسي” و عُدنا إلى المدينة.. شغّل وقتها سائق التكسي وكان “كردياً” أغنية يا دلهو يا دلهو..، لم نرحمه.. قلنا له: كيف بإمكانك أن تستمع للأغاني وابن الرئيس قد مات؟! .

أجاب بسرعة و بكل هدوء.. اي اش بساويلو؟!

لمّا قطعت إجازتي فسافرت في الوطن (آه ما أحلاه) من أقصى شماله الأخضر حتى أقصى جنوبه الأصيل.. ووصلت إلى الحدود السورية- الأردنّية.. بعد عناءٍ كبير لألتحق بعملي كما أمرني “العقيد”.. مكثنا على الحواجز بملابس عمل عسكرية مع عناصر من مختلف الفئات والقوّات العسكرية وأسلحة خفيفة عسكرية متنوّعة على أسرّة عسكرية حديدية عُلِّقت فيها أكياس شفّافة “غير عسكرية” معبّأة بالمياه (لطرد الذُباب).. ومعنا قوائم مطلوبين و أوامر تفتيش.. أكثر من شهر.

وحين جرى “الاستفتاء” ونجح ابن الرئيس (الذي لم يمت يوم كنّا في المدينة الجامعية) وصار رئيساً للبلاد وفق الدستور الذي نفذ حينها.. ركبت السيّارة “الميري” وانطلقت إلى درعا كي أستحمّ وأسهر..

كان “العقيد” واقفاً عند حاجز الخروج مثل شبح أسود في مساء مدلهمّ.. وكان صوت “نجوى كرم” يهدر و يجتاح كل الحدود و الحواجز وهي تصيح: جيت لعنّا قلبي غنّى.. وقفت وقفتلي قلبي! .

هو صاح أيضاً: شو يا ملازم “صخر”.. مبسوط وما ترفع صوت المسجلّة عالأخير.. وسيادة الرئيس ماصرلو أربعين يوم متوفي؟!.

بهدوء شديد ودون أن أفكّر.. قلت: العمر إلك يا سيدي، معليش سامحني بس من فرحتي بانتخاب “الدكتور” .. وانو سورية صارت بأمان، مو هيك؟

– اي والله هيكي.. بحضي انت شيطان، روح لا تجي لبعد بكرة.

‫2 تعليقات

  1. تحية عربية طيبة،

    المقال جيد، وكنت سأضع عليه إعجابًا، لكن بعض الكلمات الكُفرية منعتني، ناقل الكُفر ليس بكافر، إنما في مقال يُنشر على العُموم ويستهدف الجميع فمن الأفضل حذفها وترك بضع نِقَاط مع توضيح أنها كلمات كفرية، وسنفهم ذلك التلميح بما أننا سوريون، 99.99 في المئة منا مرّ بهذا الموقف بشكلٍ أو بآخر.

    لا أضعُ قيودًا على حرية الكاتب، ولا أصادر حقه في الكتابة – المقال جيّد وفيه توثيق لذكريات شنيعة عايشها السوريون. لو وردت هذه الكلمات في كتاب مذكرات أو ما شابه لم يكن هذا ليثير انتقادي، الكتاب لن يقرأه الجميع، ومن سيشتريه سيتفهّم وجهة نظر الأستاذ صخر. لكن في مقال عام، الأمر قد يكون مختفًا بعض الشيء.

زر الذهاب إلى الأعلى