فنون وآداب

غادة السمان وآخر العصافير: هل تكتب لنا أم للذاكرة؟   

تعيش في الظلّ مثل نجم يعرف بريقه، ولا يحتاج لمن يصفّق له.

نوار الماغوط- العربي القديم

في أحد مقاهي باريس، كانت تجلس امرأة في نهاية الستينات من عمرها، ترتدي نظارة شمسية في يومٍ غائم. لا أحد من العابرين يعرف أنها غادة السمان، الكاتبة التي أشعلت الكلمات، ثم انسحبت من وهج الأضواء بنفس السرعة التي ظهرت بها.

من بعيد، بدت كأنها تراقب مدينة لا تنتمي إليها تمامًا، كما لم تنتمِ لدمشق، ولا لبيروت، ولا لأي وطن في خرائط الأرض. كان الوطن بالنسبة لها كتابًا مفتوحًا على احتمالات الغضب والتمرد.

ولدت غادة في دمشق، لكنها لم تبقَ فيها طويلًا. كانت تعد نفسها أكبر من حدود المدينة وأضيق من هوائها. في طفولتها، كانت تميل لاقتناء الكتب لا الدمى، وكانت تشعر أن الكتابة ليست موهبة، بل خلاص.

أحبت غسان كنفاني، وربما أحبّها هو أكثر. كانت تراسله بجسارة، وكان يرد بخجل المراهقين، ثم أحبّها أنسي الحاج، الشاعر الذي كتب لها رسائل تفيض بالشوق والجنون، لكنها كانت دائمًا  الطرف الذي لا يستقر، مثل طائر لا يعشش إلا في العزلة وأحبت أيضًا بليغ حمدي، الموسيقار الذي كان يعرف كيف يوقظ في القلب لحنًا لا يُنسى، لكنه تركها قبل أن تكمل كلمتها، وعاد إلى “وردته” التي تنتظره على المسرح، وكأن لقاءهما كان مجرد مقطع موسيقي عابر في أغنية طويلة لا تخصّها.

في نهاية الستينات، صدمت الوسط الثقافي بزواجها من بشير الداعوق، البعثيّ حتى النخاع، ومالك دار “الطليعة”. بدت العلاقة أشبه بلقاء الثلج والنار. غادة الثائرة، العاصفة، تتزوج من رجل تقليدي الفكر، مستقر الإيقاع. أنجبت منه ابنها الوحيد حازم، الذي سمّته على اسم بطلٍ في إحدى قصصها.

لكن شيئًا ما تغير بعد ذلك، اختفت منذ منتصف السبعينات، استقرت في باريس، ورفضت إجراء أي مقابلات صحفية. يقول من عرفوها إن السبب كان مقابلة أجرتها مع صحفية عربية لم تكن قد قرأت لها شيئًا، مما أشعرها بالإهانة. فقررت أن تقطع علاقتها بالإعلام، وأن تُصمّم على الصمت.

في باريس، صارت تسير بين الناس كأشباح شخصياتها القديمة. لم تعد تكتب للعلن، بل للذاكرة. كانت غاضبة من كل شيء: الإعلام، النقاد، حتى من الزمن, عدوها اللدود  الذي كعادته، يمرّ و  يطلّ عليها كل صباح عبر مراياها، يحيّيها بابتسامة باردة، فتشيح بوجهها عنه وتختفي. كانت تريد أن يراها كما كانت: الطفلة المتمرّدة والمدلّلة والجميلة، ابنة رئيس جامعة دمشق، التي كانت يومًا معشوقة كبار الكتّاب والفنّانين، قبل أن تصير شبح يجرّ خلفه أشبح أبطال قصصها القديمة..

حين التقت بها قريبة لها، ذات مرة، قالت إن غادة أصبحت أكثر هدوءاً، لكن في عينيها لمعة لا تزال تحترق. لم تكن تتحدث كثيرًا. لا تعطي رأيًا في أحد. فقط تكتفي بابتسامة ساخرة حين يُذكر اسم كاتب كان يومًا ما عدوًا أدبيًا لها.

ذات مساء، توقفت أمام مرآة صغيرة في غرفتها الباريسية، وقالت بصوت خافت: “لم أتغير… هم فقط تغيروا .”

“أنا كما كنت دائمًا… فقط عيونهم لم تعد تراني كما من قبل.”

وغادة كانت صادقة. لم تتغير. كانت دومًا كما أرادت أن تكون: حرة، فوضوية، رافضة، عاشقة، غاضبة، وعابرة كالسُحُب، تعيش في الظلّ مثل نجم يعرف بريقه، ولا يحتاج لمن يصفّق له. تكتب ربما، أو لا تكتب. لا يهم. لأن كل ما كتبته من قبل كان يكفي لتظل في الذاكرة، ككاتبة، اختارت أن تختفى

كنفاني، أنسي الحاج، كمال ناصر… مرّوا في حياتها كمحطات رئيسية ، غير أن محمد الماغوط لم يكن كأي عابر في طريقها

كان شاعرًا لا يُشبه أحدًا. بدا كأنه خرج من رماد المدينة ليكتب لها عنها. رجل يتكئ على الألم ليصنع منه وردة حمراء على ورق أبيض. التقت به في دمشق، في بداياتها. في ذلك الزمن الذي كانت فيه الكلمات تشبه الرصاص، والحروف تشبه القبلات الممنوعة.

قال لها مرة وهو يضحك: “أحبكِ لأنكِ الوحيدة التي لا تُشبهين أحدًا… وأنا أنهكني التكرار في الوجوه والكلمات. “

لم يكن بينهما حبٌ بالمعنى المعتاد، بل كان صداقة تشوبها نظرات عميقة، ودهشة دائمة. كانت غادة تشبه الريح، والماغوط يشبه الحطب اليابس. اشتعل حين اقتربت، واحترق حين ابتعدت.

زارها أكثر من مرة، وقرأ عليها بعضًا من العصفور الأحدب. أحب دفء مكتبتها، وذاك العطر الأنثوي المختلط برائحة الكتب التي تملأ الجدران ، ومدفأتها الكبيرة التي تلتهم برد أزقة دمشق. أما طعامها، فكان يبدّد شيئًا من كآبته، ويذيب بعضا من طبقات الكبرياء الصلبة التي تراكمت على وجدانه خلال السنين .

 في عينيها كان يلمح ملاذًا مؤقتًا، مكانًا صغيرًا يركن فيه قلبه المُتعب، لطائر صغير لا يهتم به احد حتى ولكنه لم يكن يجرؤ  على الاعتراف بذلك، أما والدها، فكان يرفضه بلطف المثقف المحافظ. لم يكن قادرًا على ابتلاع كلمات مثل:

“لبنان يحترق وأنا أبحث عن فتاة سمينه احتك بها في الحافلة “،

فقال لها ممازحًا ذات يوم: “دعيه يقرأ عليكِ وحدكِ… أنصتي وحدكِ لهذا الهذيان”

ومضى الزمن… هي سافرت إلى بيروت ثم إلى لندن، ثم استقرت في باريس. وانشغلت بحروبها الداخلية والخارجية و بقي هو يتنقل بين غرف صغيرة ومدافئ هادئة، يبحث عن بيت لا يسأله من أين جاء.

سنوات طويلة مرت، إلى أن قالت لها ابنة عمّها مرة: الماغوط في باريس
فأضاءت في قلبها نجمة قديمة. حاولت اللقاء به. هاتفته في الفندق، لكن صوته جاء مرتجفًا، خافتًا، حزينًا: “لا أستطيع المجيء… ملتزم بمواعيد   …”
“لقد تغيّرت كثيرًا، لم يبقَ مني سوى صوتي الحزين…”

لكن غادة، تلك المرأة التي لا تبكي أمام أحد، شعرت بشيء يتكسر في داخلها وما بين الألم والحزن، شعرت بالندم. لماذا لم تذهب إليه، حتى لو ليصمتا سويًا

 “هل يظن أنني لم أتغيّر أنا أيضًا؟ الزمن مرّ بنا جميعًا…”

ولتمسك بيده وتقول له كما أرادت دومًا: “أنا أحب شعرك… أحب فوضاك… أحبك أيها الشاعر الذي لا مثيل له على الورق، لكن فُقّاعة الحياة انطفأت فجأة.

رحل محمد الماغوط، وبقي في ذاكرتها رجلًا رشيقًا، وسيمًا، ساخنًا كمدفأتها القديمة، يدور حوله الشعر كما تدور الكواكب حول الشمس. وكانت تلك آخر مرّة يتقاطع فيها دربها مع أحدهم، ثم تختار أن تختفي.

اليوم، غادة السمان ما زالت في باريس، بعيدة عن المقابلات، عن الضوء، عن الفضول. لا تردّ على أحد، ولا تسأل عن أحد..

ومع ذلك، حين تُفتح صفحات كتبها، تتدفّق منها شخصيات قصصها ورواياتها، تمشي بين السطور كما لو أنها خرجت للتو من مقهى دمشقي أو رصيف بيروتي، يحملون أصواتها ويمنحون إحساسًا بأنها حاضرة من خلال عالمها الروائي وشخصياتها. وملامحها وأسرارها، كأنهم يواصلون حياتها بالنيابة عنها.

زر الذهاب إلى الأعلى