سؤال الانعتاق: كيف يمكن للحرية أن تنبثق من أعماق القمع
هل يكون التكيف مع الاستبداد هو الطريق الوحيد إلى البقاء؟ أم أن هناك دائماً قوة كامنة في الإنسان تكمن في رفضه؟
محمد صبّاح * – العربي القديم
في عام 1492، في ذروة محاكم التفتيش الإسبانية، سُجنت امرأة بتهمة الهرطقة؛ كان مصيرها الحرق على يد الكنيسة الكاثوليكية، لكنها قبل تنفيذ حكم الإعدام، أعلنت بأعلى صوتها: «لن يعترف قلبي بخطيئتي، ولكنني أقبل موتي كأداة في يد الله». هذا التناقض بين الإيمان والطاعة والسلطة يعكس أعمق مظاهر الاستبداد: التكيف النفسي مع نظام يسلب الإنسان حريته الروحية والوجودية، ليحول تماهيه مع السلطة إلى أداة استمرارية لها.
التفسير النفسي: التكيف مع القمع
من وجهة نظر علم النفس، يعكس هذا التفاعل بين الإنسان والنظام القمعي حالة من التكيف النفسي الذي ينشأ كنتيجة مباشرة لظروف القمع والاستبداد. كما أشار الفيلسوف إريك فروم في كتابه «الهروب من الحرية»، فإن الإنسان في ظل القمع يعاني من حالة «القلق الوجودي»، ويبحث عن أشكال من الأمان حتى لو كانت هذه الأشكال تُبنى على وهم.
في سياق الأنظمة الاستبدادية، نجد أن الأفراد يختارون، في كثير من الأحيان، الانصياع للأوامر أو التماهي مع السلطة لتجنب هذا القلق، وهذا يخلق نوعاً من الفصام النفسي بين الرغبة الداخلية للحرية والواقع الاجتماعي الذي يُفرض عليهم.
إيفان بافلوف العالم النفسي الروسي، في تجاربه الشهيرة، أظهر كيف أن الاستجابة الشرطية بين المحفزات والردود يمكن أن تشكل سلوك الإنسان. في الأنظمة الاستبدادية، يصبح النظام الاستبدادي هو المحفز الأساسي الذي يتلقاه الفرد بشكل شبه غريزي، وهو ما ينعكس في انصياع الأفراد واستجابتهم للطاعة بشكل مباشر ودون وعي. هذا التكيف النفسي لا يُظهر فقط استجابة خوف، بل يعكس أيضًا محاكاة غير واعية للسلطة، حيث يصبح الخوف من العقاب والتماهي مع السُلطة الداخلية جزءاً من تكوين الشخصية الاجتماعية.
التفسير الفلسفي: السلطة والوجود
لكن التفسير النفسي لا يكفي لفهم التماهي مع الاستبداد، هذا التماهي يتطلب فحصاً فلسفياً أعمق يعيدنا إلى سؤال الوجود. في الفلسفة السياسية، كان للفيلسوف الألماني فريدريك هيغل إسهام عميق في فهم العلاقة بين السلطة والحرية. في كتابه « في فلسفة الحق»، ناقش هيغل مفهوم «الهيمنة» (Master-SlaveDialectic)، الذي يصف فيه علاقة السيد بالعبد، حيث يتماهى العبد مع السيد ليحصل على بعض الأمان، ولكن في النهاية، يظهر أن العبد هو من يخلق ويُشكل السيد عن طريق عمله وخضوعه. في هذا السياق، يشير هيغل إلى أن السلطة الاستبدادية ليست مجرد هيمنة أحادية، بل هي علاقة تفاعلية تبنيها رغبات الأفراد وتكيفاتهم النفسية.
من جانب آخر، يُبرز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في أعماله حول «السلطة والمعرفة» كيف أن الأنظمة الاستبدادية لا تعتمد فقط على القهر الجسدي، بل على «القوة المعرفية» التي تخلق نسقاً من الأيديولوجيات التي تُعتبر «حقيقية» من قبل الأفراد، فوكو يصف هذه الديناميكية بأنها «سلطة لامركزية» تُنتج من خلالها أفكار ومعتقدات يلتزم بها الأفراد طواعية.
التماهي مع الاستبداد: حقيقة النفس الإنسانية
عندما نعيد النظر في تاريخ الأنظمة الاستبدادية عبر العصور، نجد أن فكرة التماهي مع السلطة تتجسد بشكل متكرر. ففي العصور الوسطى، كانت الكنيسة تلعب دوراً مزدوجاً: هي الحامي الروحي والسياسي وهي العرّاب في الوقت ذاته، بحيث كان الخروج عن طاعتها يشكل تهديداً للوجود نفسه. وهذا ينطبق أيضاً على الاستبداد الحديث، حيث يتحول الناس إلى أنماط من التفاعل الاجتماعي تُمليها السلطة، سواء كانت الدولة أو المؤسسات الكبرى. هذا التماهي يتجاوز في أبعاده البُعد النفسي ليصل إلى عمق الوجود الفردي، الذي يصبح ملتصقاً بالمجموع الاجتماعي من خلال قوة النظام الذي يتبناه.
إن هذا «التماهي مع السلطة» يعكس أيضاً تساؤلات فلسفية حول كيف يصبح الإنسان كائناً اجتماعياً في ظل الاستبداد؛ هل يصبح الإنسان تحت الاستبداد أكثر قدرة على الوعي بذاته؟ أم أن السلطة تُسهم في غمره في «الغياب» عن نفسه وحقيقته؟ الفيلسوف الألماني كارل ماركس قد أشار إلى أن «الوعي الزائف» هو آلية فكرية تُستخدم لتبرير الظروف غير العادلة وتغطي على الوعي الحقيقي لمصالح الفرد. في أنظمة الاستبداد يتحول الناس إلى أدوات تبرر القهر الاجتماعي، وفي اعتقادهم أن ما يعيشونه هو «الواقع الطبيعي»، وبذلك يسلبهم النظام قدرتهم على الوصول إلى الحقيقة.
الاستبداد كعائق للحرية: هل من خلاص؟
النظام الاستبدادي لا يقتصر على ممارسة القوة الجسدية، بل يزرع في نفوس الأفراد آلية نفسية وفكرية تجعلهم يبررون القمع ويقبلون به. فالعقل البشري، الذي هو في جوهره أداة للبحث عن الحقيقة، يُعَمَل عليه بشكل مستمر لتكييفه مع الوضع القائم. هذه العملية النفسية والفكرية تُعَرف بشكل فلسفي بأنها «الاغتراب»(Alienation)، وهي حالة الافتراق بين الفرد وواقعه الذي يفرضه عليه النظام الاستبدادي.
وفقاً للمفكر اللبناني جبران خليل جبران: إن أعمق الجروح هي التي تُشَعر بها نفسك، والجروح التي يسبّبها النظام تكون الأكثر شفاءً بالنضال من أجل الحرية». هذا الاقتباس يوضح أن الخلاص من هذه الهيمنة يبدأ من مواجهة الذات أولًا، وهو ما يتطلب الوعي بوجود الاستبداد وأثره العميق على النفس الإنسانية.
لكن هل حقاً يمكن للأفراد التحرر من هذا التماهي مع السلطة؟ في النهاية، تبقى الإجابة مفتوحة: هل يظل الإنسان خاضعاً لهذا القيد إلى الأبد، أم أن لحظة الوعي والتحرر ممكنة، سواء على المستوى النفسي أو الفلسفي؟
الوجود في ظل الهيمنة
من خلال أنماط الهيمنة الاستبدادية، يتبدى الإنسان في صراع دائم مع ذاته، وكأنما هو داخل دائرة مغلقة يسعى خلالها إلى فهم حقيقة وجوده وسط القوة المهيمنة التي تطبعه وتشكله. هذا الصراع الذي قد يبدو أبديًا هو، في جوهره، مواجهة بين الإرادة الحرة والتكيف القسري؛ كما في الفلسفة الإغريقية التي وصفت الإنسان باعتباره «كائناً منفتحاً على إمكانياته» فإن الاستبداد يتجلى كتحدٍ لهذه الإمكانيات؛ حيث يُسجن الإنسان في نسق من التوقعات والمحددات التي تحجب أمامه رؤية الذات الحقيقية.
لكن حتى في هذا القيد، ينبثق الصوت النيتشوي من عمق الوجود البشري، نيتشه، الذي اعتبر الإنسان « إرادة قوة»، يرى في هذه الهيمنة نداءً داخلياً نحو القوة والانفجار؛ لا يتحقق الوجود سوى في مقاومة هذا القيد، وفي ذلك الفعل الفردي الذي يكسر القيود التي فرضها المجتمع. فكل لحظة من الخضوع تذوب في سلسلة من الانكسارات التي تُعيد تشكيل الذات بشكل مختلف، لتحقق ذاتها الحقيقية عبر الفوضى والصراع المستمر.
لكن هل يكون التكيف مع الاستبداد هو الطريق الوحيد إلى البقاء؟ أم أن هناك دائماً قوة كامنة في الإنسان تكمن في رفضه، وفي سعيه المستمر للبحث عن الحقيقة وسط الوهم؟
إنه سؤال يعيدنا إلى فلسفة الوجود التي تنبع من عمق النفس البشرية، حيث لا يمكن للإنسان أن يجد ذاته إلا في رفض الاستبداد بكل أشكاله، ولا يمكنه العيش بسلام حقيقي إلا عندما يحقق إرادته الحرة، مهما كانت التحديات.
إننا نعيش في الوقت ذاته في عالمٍ مصنوعٍ من أفكارٍ وتصوراتٍ، ولكن حريتنا تتجسد في قدرتنا على تجاوز هذه التصورات.
في النهاية، لا يمكن للإنسان أن يحقق معناه إلا في ثورته المستمرة ضد القوى التي تحاول اختزال هويته.
____________________________________
*كاتب فلسطيني