فنون وآداب

تظاهرة هامة بتنظيم متقن: (نزوح) يفسد الافتتاح

الانتصار الأكبر أن تقوم مؤسسة السينما بإدارتها الجديدة ممثلة بمديرها العام الفنان جهاد عبده بإطلاق هذه التظاهرة باسم المؤسسة التي طالما أنتجت أفلاما مزورة، افترت على ثورة السوريين

محمد منصور – العربي القديم

مما لا شك فيه أن تظاهرة (أفلام الثورة السورية) التي نظمتها المؤسسة العامة للسينما في الفترة ما بين (15-17) أيلول/ سبتمبر الجاري، هي تظاهرة مهمة من حيث تأكيدها لفكرة الانتصار الثقافي للثورة السورية… فمعظم الأفلام المعروضة في التظاهرة صورت خارج سوريا، أو خارج مناطق سيطرة النظام البائد على الأقل، وكثير منها كان يحلم أصحابها بأن يعرضوها في دمشق يوماً، وإن بدا هذا الحلم بعيدا المنال في وقت من الأوقات.

الانتصار الأكبر أن تقوم مؤسسة السينما بإدارتها الجديدة ممثلة بمديرها العام الفنان جهاد عبده بإطلاق هذه التظاهرة باسم المؤسسة التي طالما أنتجت أفلاما مزورة، افترت على ثورة السوريين وحقهم بالتغيير والخلاص من حكم استبدادي وراثي متوحش، كأفلام عبد اللطيف عبد الحميد وجود سعيد وباسل الخطيب وديانا جبور ونجدت أنزور وحسن م يوسف وسواهم ممن ستشكل أعمالهم المزورة وصمة عار في سجلهم الغارق في التأييد والتشبيح وعداء قيم الحرية والكرامة الإنسانية.

وإذا أردنا أن نتحدث عن التنظيم فلابد من القول أن التظاهرة نظمت بشكل متقن، سبقها مؤتمر صحفي للإعلان عنها، وحفل افتتاح أنيق، هادئ، خال من البهرجة الزائدة، مشغول برهافة تجلت في تخصيص ثلاثة مقاعد فارغة لثلاثة من شهداء الثورة الذين وضعت صورهم عليها في قلب القاعة، وهم: حمزة الخطيب وباسل شحادة وغياث مطر… وتم تسجيل فيديوهات للمخرجين الذين لم يتمكنوا من الحضور إلى دمشق، ليقدموا من خلالها أفلامهم للجمهور  

تبقى مسألة اختيار فيلم (نزوح) للمخرجة سؤدد كعدان كفيلم افتتاح… وهو ما بدا لي غير موفق. صحيح أن فيلم (نزوح) وهو إنتاج سوري فرنسي عام 2022 وسبق أن عرض في قسم آفاق اضافية في الدورة التاسعة والسبعين لمهرجان البندقية السينمائي، وحاز على جائزة الجمهور كما جائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للأطفال والشباب العاشر… لكن كل هذه الجوائز، لا تشفع له أمام الرسائل غير النزيهة التي تضمنها الفيلم إزاء الثورة.

يعلم كل عامل في الوسط الثقافي والفني، وكل من حاول أن يحصل على تمويل لفيلم من الأفلام التي تحكي عن الواقع السوري المؤلم خلال الثورة، وفيلم (نزوح) حصل على تمويل معتبر كما تقول سويته الإنتاجية الجيدة، أن لهذا التمويل ضريبة، وأن عليه أن يوجه رسائل، حال رفض بعض السينمائيين لقبولها بنسبة أو بأخرى، دون حصولهم على التمويل…

إن فكرة أن الثوار اتخذوا المدنيين دروعا بشرية خلال المواجهات مع النظام هي فكرة كاذبة بالمطلق، كما يعلم معظم من تابع وقائع سنوات الثورة وتفاصيلها… لأن السوريين جميعاً يعلمون أن نظام الأسد الذي قتل الناس في المدارس والجوامع والأسواق الشعبية وارتكب المجازر حتى على على أبواب الأفران، لا يمكن أن يكترث لحياة الناس، حتى لو كانوا من أبناء طائفة بشار الأسد نفسه. ويمكن أن يقتلوا المئات بدقائق كما فعلوا في مجزرة الساعة بحمص، وهي لم يكن فيها أي مسلحين، على سبيل المثال لا الحصر. والجميع يعلم أن الموت تحت القصف أهون من وقوع المدنيين في المناطق الثائرة بيد جيش نظام الأسد إن نجح في اقتحام أي منطقة، لأن ذلك سينتهي بك إلى أقبية التعذيب في أفرع المخابرات التي تتمنى فيها الموت كل دقيقة.

خطورة الفكرة ليست في تجريم الثوار فقط، بل في أنسنة نظام الأسد وتصويره أنه يمكن ان يرتدع عن اقتحام منطقة ما، خوفا من ارتفاع التكلفة البشرية من أبنائها المدنيين… هذه الفكرة فيها نسف لكل ما رأيناه من مجازر ومقابر جماعية لم يميز فيها النظام بين شيخ أو طفل أو امرأة.

وبعيدا عن هذه الإساءة يجري ذكر (الهاون) وهي تهمة ألصقها النظام بالثوار، دون ذكر البراميل، التي كان يحرم النظام ذكرها في الأعمال الفنية التي تصور في مناطق سيطرته… كما يجري تصوير المقاتلين باعتبارهم معتدين ومحتلين خارجين عن قيم المجتمع والإنسانية، لدرجة أن أحدهم لا يتورع عن إعلان رغبته الزواج بطفلة لم تصل إلى سن البلوغ. هذا الافتئات التعميمي (وخطورة النموذج الدرامي ليس في إمكانية حدوثه الشاذة بل في قدرته التعميمية) يفتح الباب أم مسألة الزواج المبكر الذي نكتشف أن الأم (كندة علوش) وقعت ضحية له… ويفتح الفيلم في النهاية الأفق لهدم العائلة من خلال إصرار الأم على عدم اصطحاب الزوج الذي لحق بها وبابنته الصغيرة باعتباره شخصيا قمعياً لا يمكن إكمال الحياة معه.

الخلل الدرامي في بناء شخصية الزوج معتز (سامر المصري) أننا لم نره يمارس أي فعل قمعي حقيقي… خلا اهتمامه بالعادات الاجتماعية للأسر المتوسطة الملتزمة التي ترفض الانكشاف على الغرباء بعد حدوث فتحات في جدران البيت، يحاول سدها بالأغطية القماشية… فهو يناقش زوجته في كل شيء، يتمتع بعناد يشبه التشبث الرومانسي بأشياء وقيم تمثل هويته، قبل أن يتحول هذا كله إلى لحظة مرحة لا تفسد للود قضية. والمشكلة الكبرى أن اندفاع ابنته الصغيرة للضغط على أمها كي توقف السيارة التي يلحق بها راجلا، ونزولها إليه لمعانقته واحتضانه، تؤكد أن هذا الأب ليس قمعيا وإلا لكرهته ونفرت منه ابنته… فكيف يجب ألا تتم رحلة النزوح إلا من دونه!

ثمة خلل واضح في البناء الدرامي للشخصيات، وفي إيقاع الفيلم الممل والبطيء الذي يجعله خيارا سيئا لفيلم افتتاح تظاهرة، مقابل تألق في التصوير ونجاح باهر في التشكيل البصري السينمائي، وسوية إنتاجية عالية موظفة لخدمة الفيلم بجدارة… لكن ضعف دراماه، وغياب الصراع الدرامي الواضح الملامح، وإيقاعه البطيء في استعراض تفاصيل حياة عادية,,, ناهيك عن عدم قدرته على تصوير ملامح المأساة الحقيقية للحصار بعيدا عن الافتعال الكوميدي الذي أضحك الناس بدل أن يبكيهم… كل هذا يجعل الفيلم خارجا عن الوجدان السوري الذي عاش مأساة حقيقية وبالغة القسوة خلال الثورة، ومعبرا عن وجدان أناس يصنعون فيلما متقناً بصرياً، عن حكايا لا تعنيهم كثيرا، بقدر اهتمامهم بتمرير الرسائل التي ترضي الممول، وتضمن التمويل والمشاركة في الإنتاج.

رغم ذلك يبقى فيلم (نزوح) بلاشك جديرا بأن يعرض في هذه التظاهرة لأنه يثير نقاشا مفيداً حول المزايا والعيوب معا… وحول أثر التمويل الأجنبي على ما قدم من أفلام عن الثورة… لكنه ليس جديرا أن يكون فيلم افتتاح في تظاهرة يجب أن يكون افتتاحها على الأقل، معبرا عن الإيمان الحقيقي والكامل بالثورة التي تحمل التظاهرة اسمها… دون أي دسائس!  

زر الذهاب إلى الأعلى